منذ أنشأ البحارة الإغريق مارسيليا على الساحل الجنوبي الفرنسي ظلت المدينة على مدى تاريخها الممتد منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى العصر الحاضر، عشقًا يتسلل إلى وجدان كل من يزورها. تغمر المدينة الجميع بتناقضاتها التي تتأرجح بين روحها العتيقة ووجهها المعاصر. على أرضها التقي المفكرون والأدباء والمغرمون بالطبيعة الجميلة، ليجد كلٌّ ضالته وينهل من ثراء موروثها ومعين سحرها، ويقف مشدوهًا أمام قدرتها على المواكبة والتكيف مع إيقاع العصور المتلاحقة.

تقع مارسيليا عند خليج الأسد الذي يرسم معالم الساحل الفرنسي الجنوبي حتى كتالونيا غربًا في إسبانيا، بينما تصنع التضاريس الجبلية التي تحيط بمارسيليا قوسًا طبيعيًا بديعًا حولها. ولا يزال ميناء مارسيليا الكبير من المراكز الرئيسة للنشاط الاقتصادي محليًا وإقليميًا، وثاني أكبر موانئ البحر الأبيض المتوسط، وخامس أكبر موانئ أوروبا. وقد جرى في هذا الإطار، إعادة تصميم مينائها القديم بالكامل، ومنح المشاة مساحة كبيرة تعزز مكانة هذا الموقع الرائع في فضاء مارسيليا الحضري.

 


معالم وآثار

لم يبقَ في مارسيليا من حقب تاريخها الروماني واليوناني القديم سوى آثار ضئيلة، لعل أكثرها وضوحًا تلك التي لا تزال قائمة في حديقة الآثار في قلب متحف تاريخ مارسيليا، غير بعيد عن الميناء القديم، شمال شرقي الميناء الحالي، حيث بقايا تحصينات يونانية، وبرج للدفاع وحوض للمياه العذبة، إلا أن أحياء المدينة حافظت في معظمها، على طابع القرية الأصيلة.

على الخليج الواقع قبالة البلدة العتيقة يربض أرخبيل فريولي، هناك حيث تتبدى جزيرة إيف If الشهيرة، إحدى جزر الأرخبيل الساحر. تقع على الجزيرة قلعة قديمة تحمل الاسم ذاته، أنشئت في القرن السادس عشر للدفاع عن المدينة، كانت في السابق سجنًا حكوميًا، وذاع صيتها منذ أن ذكرها الكاتب ألكسندر دوما في روايته الشهيرة: «Le Comte de Monte-Cristo»، حيث اتخذ منها سجنًا لبطله.

 


ينبض قلب مارسيليا القديمة في مشهد بانورامي مفعم بالتفاصيل التي تتراءى من خلاله، فتبرز قلعة سان جان مشرفة على الميناء الكبير، وموانئ الصيد الصغيرة، وأرخبيل فريولي. تحتفظ المدينة القديمة بعدد من البيوت والفنادق العتيقة، ما يجعل التنزه وسط مارسيليا القديمة وأسواقها وشوارعها الضيقة التي ورثتها عن العصور الوسطى، تجربة فريدة في ظل أجوائها البديعة، وثراء عمارتها، وسحر مينائها.

ينطلق الزائر في رحلته من حي بانييه أقدم حي في مارسيليا ومركزها التاريخي الذي يشكل ما تبقى من المدينة القديمة بعد أن دمرتها الحرب العالمية الثانية. تحتل منطقة فياي شاريتي مكانة رمزية في مارسيليا القديمة، وتقع في قلب منطقة بانييه التي تضم 4 متاحف، ومباني قديمة تصنف مباني تراثية.

على مقربة من حي بانييه لا يفوّت المتنزه التجوال في شارع كانبيير الشهير، شانزليزيه مارسيليا وشريانها التجاري الرئيس، الذي تمتد على جانبيه أشهر المباني في المدينة وتغطي واجهاتها الرسوم والأعمال الفنية الحقيقية. يبدأ الشارع من أمام ميناء مارسيليا القديم، ويمتد نحو قلب المدينة. عبر الشارع يُكمل المتنزه رحلته وصولاً إلى مشارف قصر لونشامب، الذي يضم متنزهًا رائعًا يمثل فضاءً مثاليًا للتنزه، ويضم متحفين هما متحف التاريخ الطبيعي في مارسيليا، ومتحف الفنون الجميلة.

في الليل تدب الحياة في ميدان تيار ومحيطه من الشوارع المكتظة بالمقاهي والمطاعم، حيث تحلو الأمسيات في محيط الميناء، فيبدو المكان حالمًا يحلو فيه السمر والسهر. هناك حيث تتراصف كثير من المعالم المهمة، منها قصر فارو الأسطوري يُمسك بناصية الميناء، وتحيط به حدائق فسيحة، ودار الأوبرا التي تقع على بعد أمتار من الميدان.

 


تراث بيئي

يُكوِّن البحر مع البيئة في مارسيليا محيطًا طبيعيًا فريدًا من نوعه. من أشهر متنزهات مارسيليا الحديقة الساحلية لشواطئ برادو التي يجاورها شاطئ خاص للسباحة، ومتنزه فالمر، ومتنزه باستريه الريفي، وحديقة بوريلي التي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر، ومتنزه أثينا، ومتنزه بوزين.

على بعد بضعة كيلومترات من الميناء القديم، توجد تلال صخرية تعرف باسم كالانكي، وهي محمية وطنية طبيعية أنشئت عام 2012 لحماية التراث الطبيعي في البر والبحر. وتمثل المنطقة فضاءً طبيعيًا لممارسة الرياضات البحرية، مع توافر خلجان ساحرة تقع بين التلال الصخرية المرتفعة، حيث تشتهر مارسيليا بمواقع الغوص المتعددة وأهمها أرخبيل ريو، وأرخبيل فريول، وجزيرة بلانييه.

 


مدينة الفن والثقافة

تضم مارسيليا 26 متحفًا، وهي بذلك الثانية بعد باريس، من حيث عدد المتاحف التي من أشهرها: متحف كانتيني المخصص لروائع الرسم في القرن العشرين، ومتحف تاريخ مارسيليا، ومتحف الفن المعاصر، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف علم الآثار المتوسطي، ومتحف الفنون الجميلة. إلا أن متحف حضارات أوروبا ودول المتوسط هو المتحف الوطني الأكثر زيارة في المدينة، إذ يرتاده في كل عام أكثر من مليوني زائر.

ليست المتاحف وحدها الوجهة الثقافية الأبرز حضورًا في مارسيليا، بل إنها تحتفي بقدر كبير من المسارح التاريخية، ومنها مسرح الصالة الرياضية الذي يرجع تاريخه إلى عام 1804، ومسرح مارسيليا الوطني، إضافة إلى دار الأوبرا التي أنشئت عام 1920 لتحل محل المسرح الكبير الذي دُمر عام 1919، وكلها مع غيرها مراكز مرموقة عززت من حضور المدينة الثقافي لتحتضن مهرجانات فنية كبرى مثل مهرجان مارسيليا الدولي للسينما، فضلاً عن كونها المقصد الثاني في فرنسا لتصوير الأعمال السينمائية والأعمال التلفازية.

تحتفي مارسيليا بعدد كبير من الأدباء والشعراء والكُتَّاب المشهورين الذين احتضنتهم أو ولدوا فيها، ومنهم مارسيل بانيول، والشاعر أرتور رامبو، وستاندال، وألكسندر دوما، وغوستاف فلوبير، وجيرار دو نيرفال، وفيكتور هوغو، وتيوفيل غوتييه، وغيرهم من المؤثرين في عالم الثقافة والأدب على المستوى العالمي.


x
You are looking for