في الخريبة الكثير مما يستحق التأمل والقراءة. هناك عدد من النقوش والصخر المنحوت، والآثار المتناثرة في الموقع. وقد وثقت النقوش الدادانية، والمعينية، واللحيانية، والثمودية، والنبطية، والكوفية، الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية للحيانيين في الخريبة. ومن أهم شواهد الخريبة الأثرية أيضًا، نقوش وآثار وعيون وقلاع وسدود وبقاياها، وأبراج رصد طوالع النجوم والأهلّة. 

الخريبة بوابة تُفضي إلى عمق التاريخ البشري، ونافذة تطل على حضارة قديمة زاخرة بالأسرار، ومتحف مفتوح وغني بالكنوز الأثرية، والشواهد الحية على منجزات أهلها الأولين وصبرهم وشدة بأسهم. وموقع «الخريبة» التاريخي دليل وبرهان على عظمة الزمان والمكان، وشاهد على تكامل الحضارات، وفوق قمم جبالها تنتشر النجوم لتحرس أوابدها الثرية، التي خلفتها ديدان، ولحيان، ومعين. 

مقابر الأسود ومحلب الناقة 

تضم الخريبة في سهلها وجبالها عددًا من المواقع الأثرية من أهمها: مقابر الأسود ومجموعها 21 مدفنًا، ومحلب الناقة في الشمال الغربي من الخريبة، وهو حوض حجري دائري وسط أساسات أثرية، ارتفاعه 158 سم وسماكته 30 سم، وبداخله بروز حجري ارتفاعه 145 سم ومقسم إلى 3 درجات. ومن المرجح أنه كان يستخدم للنزول إلى داخله في أثناء استعماله. ومنقوش في الحوض الكثير من الكتابات القديمة. ويعرف هذا الحوض عند العامة بمحلب الناقة نسبة إلى ناقة سيدنا صالح، عليه السلام، حسب زعمهم. وقد أظهر البحث الأثري أن هذا الحوض لا يعدو كونه أكثر من حوض تطهير منحوتًا أمام معبد لحياني. وقد يكون إنشـاء الحوض من قبيل التأثر بالطقوس السائدة في ذلك الوقت ولا سيما البطالمة في مصر، وذلك في إطار التواصل الإنساني والتجاري الذي نشأ بينهم وبين حضارات المنطقة. 

كما تضم بعض المقابر الصخرية، والنقوش، والتلال الأثرية، وأسـاسات وقواعد لمعابد قـديـمة. ويمتد طول المنطقة من الشمال إلى الجنوب نحو كيلو متر واحد، فيما يبلغ عرضها من الشرق إلى الغرب حوالي 400 متر. أما المقابر والمدافن الديدانية فتقع شمال المجموعة المعينية، وقد وضعت سلالم تربط الوادي بهذه المقابر وتسهل الصعود إليها، وتختلف المقابر المنحوتة في سفح الجبل المعروف بجبل دادان عن بعضها، فمنها ما هو على شكل غرفة منحوتة في الصخر تتوزع على أرضيتها وجدرانها مدافن مستطيلة الشكل، وهناك مقابر منحوتة في الصخر على أشكال متنوعة وأحجام متفاوتة. 

  

ديـدان ولحيان ومعين 

الخريبة هو الاسم المعروف محليًا لهذه المنطقة الأثرية النابضة بهيبة التاريخ في شمال شرق محافظة العلا، والتي تُعرف أيضًا بدادان أو ديدان بإمالـة الألف، وذلك نسبة إلى المملكة الديدانية التي استقرت فيها واتخذتها عاصمة لها، كما هو الحال لكل من مملكتي لحيان ومعين. 

 وينفرد هذا المكان بكونه الموقع الوحيد الذي احتضن ثلاث حضارات قديمة، وكان عاصمة لتلك الممالك التي استحوذت عليه، نظرًا لموقعه الطبوغرافي والتجاري المهم في ذلك الوقت. ومن المؤكد أن النشاط التجاري كان هو الباعث الأول لوجود هذه الممالك في هذا المكان تحديدًا، كونه موقعًا استراتيجيًا لوقوعه على الطريق الرئيس لتجارة البخور والتوابل اللذين كانا أهم المواد التجارية الرائجة في اقتصاديات العالم القديم. وكانت الممالك آنذاك تحرص جميعها على بسط نفوذها على هذا الطريق الذي يمتد من أقصى جنوب الجزيرة العربية وعبر شمالها إلى المراكز الحضارية في بلاد الرافدين والشـام ومصـر. 

تعد دادان ولحيان ومعين من الممالك القديمة التي ظهرت خلال الفترة من القرن السادس قبل الميلاد حتى القرن الأول قبل الميـلاد، وتكشف كتابات الباحثين المبنية على دراسة الشواهد الأثرية وفحصها، أن تلك الممالك كانت تتبع أنظمة محددة وقـواعد منظمة لإدارة شؤون حياتها، وتتقيد بقوانين اجتماعية تنظم حضورها الفاعل في الحياة، وقد حملت بعض النقوش إشارات متعددة عن الأيديولوجيا الخاصة بها. ولم يقتصر الأثر الحضاري لهذه الممالك على نطاق وجودها الضيق، بل امتد إلى مواقع محاذية كجبل عكمة الواقع إلى الشمال من الخريبة، حيث يزخر بالنقوش التي دونت جوانب من تاريخ مملكتي دادان ولحيان، وقدمت لدارسي تاريخ الحضارة القديمة وثيقة حية كشفت كثيرًا من غموض تلك الحقبة الزمنية. واستطاع الباحثون من خلالها معرفة بداية كل مملكة ونهايتها من هذه الممالك. وكان من نتائج البحث في تلك الوثائق القديمة أن: 

  • مملكة دادان يعود تاريخها إلى الفترة من القرن السادس حتى بداية القرن الخامس قبل الميلاد، ونظام الحكم فيها ملكيًا وراثيًا. 

  • أما مملكة لحيان، فقد حدد العلماء تاريخ وجودها من بداية القرن الخامس حتى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وكان نظام الحكم فيها وراثيًا، وقد امتد نفوذها حتى خليج العقبة. 

  • يعزو العلماء تاريخ دولة معين إلى منتصف القرن السادس حتى مطلع القرن الأول الميلادي. وترجع أصول المعينيين إلى القبائل العربية التي عاشت في جنوب الجزيرة العربية، وتوسعت دولتهم شمالاً وبسطت نفوذها على العلا والحِجر، وانتهت على يدهم دولة اللحيانيين في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد. ويعتقد بعض المؤرخين أن وصول المعينيين إلى العلا لا يعني انتهاء دولة لحيان، وإنما حصل اتفاق بين الطرفين على أن يكون للمعينيين إدارة النواحي التجارية، وللحيانيين إدارة شؤون الحكم وتنظيمه. 

ووفقًا لبعض الآراء، فإن أول من اكتشف هذا المكان هم «المعينيون»، ولكن يظل «الديدانيون» هم الأشهر في هذا الموقع، إذ كان «المعينيون» في جنوب الجزيرة العربية، ولم يكن لهم سـوى حامية اقتصادية في هذا المكان، وكانت لهم علاقات مع «البطالمة» في مصر، واستمرت العلاقة مع وجود الديدانيين واللحيانيين والمعينيين جنبًا إلى جنب، ثم ما لبثت أن أصبحت دولة لحيان أشهر، ووطدوا علاقاتهم مع المعينيين أيضًا، واستقروا في المنطقة معًا، وعملوا واجهات مقابر معينية في جنوب الموقع. وانتهت الحضارة اللحيانية حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد على أيدي الأنباط عندما سيطروا على شمال المنطقة، واستقروا في منطقة الحِجر. واتجهوا بعدها جنوبًا ليسيطروا على هذا المكان تجاريًا، وبلا حرب، وذلك في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، ولهم رسومات وكتابات ونقوش كثيرة، وبعض الآثار التاريخية. وتنقل المصادر ورود لفظ ديدان في التوراة، وكتابات الآشوريين، وبعض المصادر العربية القديمة. 

x
You are looking for