من الرحابة غير المتناهية إلى الضِيق، ومن الأفق الفسيح إلى الجدران والفوهات والممرات المتشابكة والأعمدة المنتصبة في شموخ وزهو، من لفح الشمس وضيائها المبهرة إلى الظلال المسكونة بالهدوء، من حضارة القرن الواحد والعشرين إلى سنوات ما قبل العصور الحجرية. تلك المشاهد التي جرى وصفها ربما توحي بالسفر عبر الزمن لكنها في الحقيقة هي ما يشعر به زوار كهف أم جرسان. فوسط الصحراء القاحلة تقع تلك المعجزة الجيولوجية التي تسمى كهف أم جرسان.
يقع الكهف في حرة خيبر شمال المدينة المنورة، ويعد من أكبر الكهوف في الوطن العربي، حيث يبلغ طوله 1500 متر. وتتفاوت الارتفاعات داخل الكهف فهي ليست متساوية، ويبلغ أقصى ارتفاع فيه 12 مترًا. أما عرض الكهف فيصل لنحو 45 مترًا. ويحتوي على عظام حيوانات مفترسة مثل الوحش البقري الذي انقرض منذ ثمانية آلاف عام، وكتابات يعود تاريخها لآلاف السنين. وهذا يدل على أن الكهف عُرف عبر عصور مختلفة بينما لم يعرفه إنسان العصور الحديثة رغم التطور والتقنيات إلا منذ سنوات معدودة. وكان الفضل لهيئة المساحة الجيولوجية في المملكة والتي قامت بتنفيذ برنامج علمي للكشف عن الكهوف، ورفع اللثام عن الكنوز الأثرية والبقايا التي حفظتها لنا تلك الكهوف من أجل دراستها، والبوح بكثير من أسرارها، وما مر على الكرة الأرضية من تغيرات مناخية وجغرافية، وما حدث على أرض الجزيرة من أحداث جيولوجية خاصة. وعقب تلك الاكتشافات أصبحت الكهوف على قائمة السياحة لعاشقي المغامرات، سواء من داخل المملكة أو خارجها. فالكهوف تمتلك تكوينات جمالية ومناظر طبيعية تسلب الألباب.
فوهات الكهوف
لا سبيل إلى الولوج إلى داخل الكهوف إلا عبر الفوهات الجوفية. وتختلف تلك الفوهات من كهف إلى آخر. ومن العجيب أن تلك الفوهات ربما تكون أفقية وربما تصبح رأسية. فالفوهات هي البوابات الوحيدة للدخول إلى الكهف عبر النزول من خلالها من أجل اكتشاف الكنوز التي تحتوي عليها تلك الكهوف. بالإضافة إلى الفوهات التي تعد أهم مكونات الكهوف هناك الممرات الداخلية، وهي الأخرى تختلف في اتساعها وضيقها وفقًا للتشكيلات الجيولوجية التي تكونت وفقًا لها الكهوف. وتفضي تلك الممرات إلى غرف تكتنز كل منها بالتشكيلات والتكوينات الجمالية. ومن أبرز تلك التشكيلات التي تدفع كثيرًا من المغامرين والمستكشفين إلى زيارة الكهوف، الأعمدة الجيرية الهابطة والأعمدة الجيرية الصاعدة. تتكون تلك الأعمدة من ترسب كربونات الكالسيوم على أسقف الكهوف وأرضياتها. فحركة المياه حول الكهوف وداخلها تؤثر في تكوين الكهوف، وهي ما تقوم بفتح التجاويف والقنوات داخل الكهوف. وفي حالة إذا كان الماء يتحرك ببطء فإن حركته البطيئة تلك تتسبب في إذابة الصخر بدلاً من تآكله، لذا تتشكل سراديب من الممرات. كانت نقطة الانطلاق المدينة المنورة، وتم الاتجاه صوب محافظة خيبر في رحلة استغرقت قرابة الساعة والنصف من أجل الوصول إلى «كهف أم جرسان» القريب من مركز الثمد. وكان الأصعب في الرحلة هو الوصول إلى الكهف نظرًا لوعورة الطريق. فالطريق المؤدية إلى الكهف كانت صخورًا وعرة.
الرأس الأبيض
بدأت الرحلة من مركز الثمد باتجاه الكهف، عبورًا بالمنطقة المعروفة بـ«الرأس الأبيض» مرورًا «بوادي الجول»، وهو أحد الأودية الكبيرة والوسيعة في منطقة خيبر. وقد علمنا أن الكهف معروف لدى أهالي المنطقة منذ سنين، وكثير من الزوار قصدوا كهف أم جرسان من الفرق العلمية والبحثية، وأقاموا عدة أيام في الكهف. وزاره عدد من الرحالة والأفواج الأوروبية الذين جاؤوا خصصيًا للكهف الذي يقع على حرة من طبقات الصهارة البركانية، والتي سالت من بركان «جبل القدر» ويسكنه عدد من الحيوانات المفترسة.
طريق النزول إلى أسفل الكهف الذي يبلغ عرضه 45 مترًا وارتفاعه 20 مترًا كان فيه صعوبة وخطورة. كان علينا توخي الحذر لتفادي التعرض إلى الانزلاق عبر الصخور الملساء، والتي تأثرت بعوامل التعرية وبهطول الأمطار, ناهيك من انخفاض درجة الحرارة داخل الكهف. كلما توغلنا داخل الكهف كانت تنتابنا مشاعر الخوف والرهبة من المجهول الذي نسير نحوه. فالظلام يسيطر على المكان، فضلاً عن الحيوانات المفترسة التي تعيش داخل الكهف.
هي مغامرة كانت تستحق العناء لاكتشاف ما يخبئه كهف أم جرسان الذي لا يزال يحتفظ بأسراره ومنها الكثير العصي على الاكتشاف.