مساجد المدينة المنورة لها تاريخ حافل يروي فضائل زمن بات إرثًا ثمينًا يعكس تاريخ الأمة بمكانه وأحداثه، تترجمه طيبة الطيبة، المدينة المنورة، ذات الشأن العظيم بين المسلمين، التي تميزت عن كل مدن العالم فتُذكر بقاطنها الرسول الكريم سيدنا محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما.
تتباهى المدينة المنورة بتاريخها الفيّض الوفير، فيكفيها فخرًا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، هاجر إليها ودعا لها، ولا يوجد موقع فيها إلا فيه أثر أو خبر أو قصة أو تنزيل من الله، عز وجل، وتشريع من المصطفى، صلى الله عليه وسلم. تضم المدينة المنورة كثيرًا من المساجد التاريخية التي ارتبط بعضها بسيرة النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم.
إلى جانب مكة المكرمة، توجد في المدينة المنورة أقدم المساجد في العالم، وتنقسم إلى مساجد أنشئت قبل قدوم النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي التي أنشأها المسلمون الذين بايعوا الرسول، صلى الله عليه وسلم، في بيعتي العقبة الأولى والثانية قبل الهجرة. ومساجد أنشئت بعد هجرته إلى المدينة المنورة، ومساجد أنشئت بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم.
المسجد النبوي
روضة من الجنة
أحد أكبر المساجد في العالم وثاني أقدس موقع في الإسلام بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة. بناه النبي، صلى الله عليه وسلم، في السنة الأولى من هجرته بعد بناء مسجد قباء. يحظى المسجد النبوي بفضائل كثيرة، فهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، لحديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصَى، ومسجدي هذا» رواه البخاري. وتعدل الصلاة فيه ألف صلاة في غيره، لحديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «صلاةٌ في مسجدي هذا، خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في غيرِه من المساجدِ، إلا المسجدَ الحرامَ» رواه مسلم.
يقع في المسجد النبوي «الروضة المباركة»، يقول فيها النبي، صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي» رواه البخاري.
مرّ المسجد النبوي بتوسعات عدة عبر التاريخ. وبعد التوسعة التي قام بها عمر بن عبدالعزيز عام 91 هـ أُدخِل في المسجد حجرة السيدة عائشة، رضي الله عنها، والمعروفة حاليًا بالحجرة النبوية الشريفة، والتي تقع في الركن الجنوبي الشرقي من المسجد، والمدفون فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحباه، رضي الله عنهما. كما شهد المسجد توسعات ضخمة هي الأكبر في تاريخه خلال العهد السعودي، منذ عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، ثم أبنائه البررة من بعده، حيث كانت التوسعة الأكبر التي دشنها الملك فهد بن عبدالعزيز، يرحمه الله، ومن بعده الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يرحمه الله، وما يشهده المسجد النبوي من رعاية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، يحفظه الله، إذ تستمر مشروعات التوسعة الكبرى لراحة زوار الحرم النبوي.
مسجد قباء
أول المساجد
أول مسجد أسسه الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة عندما قدِم إليها مهاجرًا. وسمي مسجد قباء لوقوعه في قرية قباء في الجنوب الغربي للمدينة. وأرضه كانت مربدًا للصحابي الأنصاري كلثوم بن الهدم، وقد شارك الرسول أصحابه في بنائه.
من مسجد قباء وضعت اللبنة الأولى للمجتمع الإسلامي فأصبح للمدينة المنورة دور بارز في تاريخ المسلمين، وتحولت من بلدة صغيرة في زاوية من زوايا التاريخ إلى مركز لصنع التاريخ.
لمسجد قباء فضائل كثيرة، فالصلاة فيه تعدل عمرة. روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من توضأ فأسبغ الوضوء وجاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له أجر عمرة». أخرجه البخاري. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يأتي مسجد قباء كل سبتٍ ماشيًا أو راكبًا.
جرى ترميم المسجد وتجديده خلال العصور الماضية، ومن ذلك التوسعة في عهد الدولة السعودية في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، التي اكتملت أعمالها عام 1407هـ، فضلاً عن التوسعات اللاحقة، التي لا يتوقف العمل عليها منذ عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله.
مسجد بني سلمة
مسجد القبلتين
من المساجد التي بُنيت بعد بيعة العقبة وقبل هجرة النبي، صلى الله عليه وسلم. سُمي مسجد بني سلمة لوجوده في حيّهم وهم من الخزرج. يعد من المساجد التي صلى بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وسبب تسميته القبلتين هو ما رواه يحيى عن عثمان بن محمد بن الأخنس، رضي الله عنه، قال: «زار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعامًا، وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأصحابه ركعتين ثم أُمر أن يوجه إلى الكعبة، فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب» رواه البخاري. فهي القبلة التي قال الله تعالى فيها: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} (البقرة: من الآية 144).
جرى تجديد المسجد في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، سنة 1408 هـ، حيث شهد توسعة عمرانية كبيرة، وبقيت جدرانه التي تغيرت مع الزمن على حالها ببياضها الناصع الذي يبدو للزائر من بعيد، وبمناراته الباسقة ذات الجانب الجمالي المتميز.
تصوير: علي الشهراني
مسجد المصلى "الغمامة"
صلاة العيدين والاستسقاء
يستوقف زائر المدينة المنورة أحد أبرز المساجد التي تُخلّد السيرة النبوية العطرة لنبي الرحمة والهدى، عليه الصلاة والسلام، وما يحويه الموقع من موروث حضاري قديم. يقع المسجد في الجهة الجنوبية من المسجد النبوي الشريف، وفي موضعه كان صلى الله عليه وسلم، يصلي صلاة العيدين والاستسقاء، ولهذا عرف بمسجد المصلى. والمسجد معروف اليوم بمسجد الغمامة. وسبب ذلك كما يقال أن غيمة حجبت الشمس عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، في أثناء صلاة الاستسقاء في هذا الموقع.
بُني المسجد في ولاية الخليفة عمر بن عبدالعزيز، رضي الله عنه، وشهد إصلاحات عدة وأعمال بناء متتابعة على مدى العصور اللاحقة. ويحظى المسجد حاليًا بالاهتمام والعناية والحفاظ على طرازه المعماري, أسوة بالأماكن الدينية والمعالم التاريخية التي تزخر بها طيبة الطيبة.
مسجد الجمعة
على طريق الهجرة
يكتسب مسجد الجمعة مكانة خاصة وبارزة في التاريخ الإسلامي, إذ ارتبطت نشأته بهجرة الرسول المصطفى، صلى الله عليه وسلم، من مكة المكرمة عندما خرج صلى الله عليه وسلم، متوجهًا إلى المدينة المنورة، وعلى مقربة من محل إقامته بقباء أدركته صلاة الجمعة فصلاها في بطن «وادي الرانوناء». وقد حُدّد المكان الذي صلى فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلاة الجمعة, وسمي بعد ذلك بمسجد الجمعة.
للمسجد العديد من المسميات، إذ يطلق عليه اسم مسجد الوادي، ومسجد عاتكة، ومسجد القبيب, وشهد وقائع من هجرة المصطفى، عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة المنورة, وجوانب من سيرته العطرة.
يقع المسجد جنوب غرب المدينة المنورة، وتأسس بناؤه من الصخور المتطابقة، وقد أُعيد بناؤه وتجديده في كل مرة يتهدم فيها. وكان المسجد قبل التوسعة الأخيرة مبنيًا فوق رابية صغيرة, وله قبة واحدة مبنية بالطوب الأحمر. وفي عام 1409هـ، أمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، بإعادة بناء المسجد وتوسعته وافتتح في عام 1412هـ، إذ يتميز بمنارته الرفيعة البديعة, والقبة الرئيسة التي تتوسط ساحة الصلاة, إضافة إلى أربع قباب صغيرة تتوزّع في جنباته.
مساجد أخرى
هذا وثمة مساجد تاريخية أخرى في المدينة المنورة، من بينها، مسجد السقيا الذي يقع بباب العنبرية، داخل سور محطة السكة الحديد، والذي بُني مكان قبة النبي، صلى الله عليه وسلم، عند خروجه لغزوة بدر. ومسجد الراية الواقع إلى الشمال الغربي من المسجد النبوي الشريف. أما مسجد الإجابة فقد ثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صلى فيه، بينما سُمي مسجد الأحزاب بهذا الاسم لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، دعا فيه على الأحزاب، وقد سمي بالمسجد الأعلى، ومسجد الفتح. وتطول قائمة المساجد التاريخية في المدينة المنورة التي يسري عبقها في أرجاء طيبة الطيبة.