في شمال غرب العاصمة الرياض، وعلى ضفاف وادي حنيفة، أحد التضاريس المهمة في إقليم اليمامة، ينبثق حي الطريف، الذي هو في الأصل الدرعية القديمة، والعاصمة الأولى للدولة السعودية الأولى. جرت في هذا الحي، أو العاصمة الأولى، مبايعة الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، وأمير الدرعية، آنذاك، بالإمامة، بناءً على ميثاق الدرعية الذي جرى بينه وبين الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لنشر الدعوة السلفية وتجديدها بمحاربة البدع والخرافات، وتبني حركة إصلاحية في شتى مناحي الحياة. كان ذلك في عام 1157هـ- 1745م.
طرف التاريخ
عندما تتجه ببصرك من حي البجيري في محافظة الدرعية، إلى حي الطريف على الضفة الأخرى من وادي حنيفة، تنطبع في الذاكرة صورة قصور طينية ذات نمط عمراني نجدي خلاب لم يمحها الزمن، ولن تستطيع أن تمحوها من ذاكرتك. فهي ملمح من ملامح التراث الإنساني التليد لتلك المنطقة الساحرة بمكوناتها، حيث جمعت بين الجمال والصمود وكيان باقٍ بالرغم من القرون التي مرت. استمد هذا الحي سحره من جماله، عبر الأحداث التاريخية التي مرت به، فشكلت كيانه وعبقه، فسُجِّل في عام 2010 ضمن قائمة مواقع التراث العالمي في منظمة اليونيسكو، ليكون بذلك من أهم الوجهات التاريخية والسياحية في المملكة العربية السعودية.
لوهلة قبل أن تدلف إلى حي الطريف عبر جسر مشاة أُنشئ حديثًا وسُمي بجسر محمد بن عبدالوهاب، يقع مقابل مركز الزوار في حي البجيري، ستسبر أبعاد الحي الذي تمثل أمام ناظريك لوحة مترامية في الأفق، فكانت بين السماء وبطن الوادي الذي يسيل مع هطول الغمام، لوحة فريدة في متحف طبيعي. وأنت تعبر الجسر ستخال نفسك في عالم ساحر يجعلك تتساءل: هل هذا حقيقة، أم أنه من نسج خيال جانح، تكاتف معه عمران بديع مغرق في القدم؟ لن تصدق أن التاريخ ماثلٌ هنا وأنك تسير على أرضه إلا عندما تتحسس بأناملك أول جدار طيني يقابلك في هذا الحي.
قصر سلوى
عندما تمسك بطرف التاريخ في حي الطريف، فإنه سيأخذك إلى عوالمه البديعة والمنيعة، بين المساجد والقصور والبيوت، تنساب معه إلى أزقة ودهاليز ودكاكين ذلك الحي، وتقف أمام أبواب بيوته، فلا تفوتك منه نافذة، ولا باب دكان موارب. ولا يسلو القلب إلا أمام قصر سلوى، الذي يأسر اللب عندما تذكر مَن مروا أمام بابه، أو تحصنوا خلف جدرانه، أو سكنوا في إيوانه، لتكون أمام هذا القصر كشاعر يقف على أطلال مجد تليد.
يقع القصر في الجهة الشمالية من حي الطريف، وهو من أكبر المباني في الحي، إذ تبلغ مساحته أكثر من عشرة آلاف متر مربع. وبحسب الدراسات التي جرت على أطلاله، يتكوَّن القصر من سبع وحدات بُنيت في فترات زمنية لأغراض سكنية مختلفة. ولقد كانت إحداها سكنًا للإمام محمد بن سعود، وأخرى سكنًا للإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، والوحدة السابعة منها كانت سكنًا للإمام سعود بن عبدالعزيز «سعود الكبير»، بالإضافة إلى مسجد الإمام محمد بن سعود.
جرى ترميم هذا القصر على مراحل عدة، لاسيما من أساساته الضاربة في الأرض، وبقيت جدرانه التي تغيرت مع الزمن على حالها، ولم يُستكمل بناؤها، بل جرى ترميمها بأسلوب حذر، فمنح القصر مشهدًا خلابًا، جعل من نقص ارتفاع بعض زوايا جدرانه جمالاً ماديًا يشبه الجمال المعنوي للوقوف على الأطلال، فهي كأطلال التاريخ التي يسلى القلب عن سواها عند الوقوف بها.
متحف المتاحف
هل تصدق أن فتحة في جدار طيني قديم له من العمر أكثر من ثلاث مئة سنة ستأخذك إلى عوالم ساحرة؟! صدّق! هذا هو متحف الدرعية في قصر سلوى في حي الطريف. عبر الجدار الطيني في القصر ستنقلك شاشات عرض صوت وصورة وضوء ووسائط متعددة إلى التاريخ والعمران والأحداث التي مرت به.
يُعد الحي بأكمله متحفًا عظيمًا لسلسلة أحداثٍ وزمنٍ تليد وتاريخٍ مجيد. فهو بمنزلة متحف المتاحف، حيث تحولت كثير من قصوره إلى متاحف، مثل قصر الأمير عمر بن سعود الكبير، الذي خُصص لعرض جانب من الحياة الاجتماعية في زمن الدولة السعودية الأولى، من عادات وتقاليد وموروث، حتى الأدوات المستخدمة.
يشتمل الحي على خمسة متاحف: متحف الدرعية في قصر سلوى، ومتحف الحياة الاجتماعية في قصر الأمير عمر، بالإضافة إلى ثلاثة متاحف في قصور أخرى، وهي: المتحف الحربي، ومتحف الخيل العربية الأصيلة، ومتحف التجارة والمال في قصر بيت المال.
سوق وقصور
مثل أي حيٍّ وأي مدينة أو عاصمة، يزخر هذا الحي التاريخي بقصور إدارية تتماشى مع متطلبات ذلك الزمن الذي يرجع إلى القرن السابع عشر في منطقة نجد. فهناك قصر بيت المال، وقصور أمراء، بالإضافة إلى بيوت تأخذك صعودًا إلى علو الحي. وهناك على سفح الحي ستجد سوقًا تتكوَّن من 38 دكانًا تحاكي دكاكين ذلك الزمن بمساحتها الصغيرة، لتخصص بعد ذلك للتذكارات والمنتجات الحرفية. لا تتوقف مكونات هذا الحي عند السوق والقصور، بل تمتد إلى حمام الطريف الذي بُني بأسلوب حديث غير موجود في ذلك الوقت، فجمع بين جمال الأقواس الجبسية والسواري النجدية التي تُقيم الأسقف.
لقد غدا حي الطريف في عمرانه تحفةً فنيةً زيَّنت نفسها بنفسها. فالطين والَّلبِن المستخدمان في بيوته من أرض الدرعية، وأحجاره الصخرية من وادي حنيفة. فله أن يتباهى بعد ذلك بأنه طريف، فهو الطرف الأجمل، على وادٍ يشق هضبة نجد، له من التاريخ فيض وفير.