بوابة جدة القديمة تفتح لكل زائر، متزينة بوشاح المحبة، ليست لأنها مجرد مدينة جميلة، بل لأنها فلسفة كيان جمع القاصي والداني. فمن بحرها، إلى رملها تروي حكاية عشق أزلي من كل من وطأ أرضها. إنها جدة التي يفيض التاريخ من رواشينها العتيقة، وتتزاحم الزخارف المنحوتة على أبوابها الخشبية لتخبر الجميع بقصصها القديمة.

نعم هي الأماكن والرواشين ذاتها التي تروي حكاية مدينة لم تكن تتعدى بضعة كيلو مترات، لتصبح اليوم مترامية الأطراف، إلا أنها لا تزال وفية لعهودها القديمة فتحفظ بين طياتها تراثًا بشريًا وثقافيًا وحضاريًا أبى الاندثار، وشهد سالف العصر والأوان على عظمة ما مضى عليها وجماله.

المتأمل لطابع المعمار القديم في منطقة الحجاز، خصوصًا بمدينة جدة، سيقف على مشهد جمالي بديع الصنع منظورًا في «الرواشين»، ذلك الفن المصنوع من الخشب على نسق هندسي وفني بالغ الدقة والجمال. نمط تميزت به بيوت الحجاز ومبانيها في سابق العهود، بقيت منها هذه الرواشين والجدران العتيقة تمثل بعض الملامح التي تغالب الاندثار، وتمسك برمق الحياة. ينظر إليها المتأمل حين يعبر المنطقة التاريخية في مدينة جدة، ليعود بالذكرى لحنين يسترجع معه ماضي هذا الفن الجميل.

الرواشين

وقفة تأمل عند هذه الرواشين، سيقرأ فيها المرء ما كان من أمرها قديمًا، ليدرك أنه ما من بيت في السابق خلا من هذه الحلية المعمارية البديعة، سيدرك أن هذه المدينة عرفت هذه الرواشين في أوائل القرن الرابع عشر الهجري حين كانت تُجلب إليها أخشاب بمسميات عديدة، وخامات مختلفة، لكل واحدة منها مزيتها الخاصة، وموضعها المناسب في الطراز المعماري. فهناك خشب يدعى «الغني» يجلب من مدينة الملايو، ومنه تصنع الرواشين والأبواب. ومضى على الناس وقت في الحجاز كانوا يجلبون الرواشين والطيق والأبواب من الهند غالبًا.
لما ترسخ هذا الفن في المعمار الحجازي، تفتقت عبقرية إنسان هذه المنطقة فصار يصنع الرواشين بنفسه، مستغنيًا في ذلك عن جلبها من الخارج، مستفيدًا من أخشاب الدوم المجلوبة من منطقة الطائف. وقد برع في ذلك العمل الفني العديد من الحرفيين المهرة مقدمين نمطًا فنيًا يمازج في شكله البيوت الهندسية التركية. واتسعت رقعة الرواشين، فبعد أن كان صغيرًا في وسط جدار الغرفة صار يصنع كبيرًا بقدر سعة الحجرة، مزودًا بفتحات تسمى «قلاب»، التي استغني بها عما كان يوضع قديمًا على الطيق والفتحات من ستائر، والتي كانت تصنع من أعواد النخيل بصورة رفيعة يطلق عليها «كبريتة». إن أراد المرء أن يقف على حقيقة ما تمثله هذه الرواشين لمن عاصروا أوان سيطرتها على الطراز المعماري في منطقة الحجاز وفي مدينة جدة على وجه التحديد، فليقصد منطقة البلد التاريخية.

بيوت قديمة

لطالما احتضن سور جدة القديم، الذي بني بهدف حماية المدينة وتحصينها، بين جدرانه أحياء المدينة القديمة وحواريها التي اكتسبت أسماءها من مواقعها الجغرافية، أو شهرتها بما ألمَّ بها من أحداث. فتأتي حارة المظلوم في صدارة هذه المناطق التاريخية وتقع بالجزء الشمالي الشرقي داخل السور في شارع العلوي، وتضم دور آل قابل، وآل الشيخ، ومسجد الشافعي. وفي الاتجاه نفسه تقع حارة الشام التي تضم دور السرتي والزاهد. أما حارة اليمن فتقع إلى الجنوب من السور، في اتجاه اليمن، وبها دور آل نصيف، والجمجوم، وآل عبدالصمد، وآل شعراوي، والكيال. بينما تعد حارة الكرنتينة الواقعة في جنوب جدة أقدم أحيائها التاريخية خارج السور، وكانت تشهد دخول الحجاج القادمين بحرًا. أما حارة البحر فتقع إلى الجنوب من المدينة، وتطل على البحر، وتضم دور آل النمر، وآل رضوان. وما أن يدلف الزائر إلى موقع هذا التراث الإنساني الفريد، فسيصادفه الكثير من البيوت القديمة المعروفة في المنطقة التاريخية. فهذا هو بيت باعشن، وعلى مقربة منه بيت عاشور، وبعده بقليل بيت باجسير، وعلى مرمى البصر بيت نصيف، أو قصر نصيف كما كان يقال له، لأن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه، اتخذه مقرًا في السابق. وتشكل المنازل تلاحمًا مجتمعيًا، بالتئام كل منزل مع الآخر ما جعل من حواريها، وسكانها، ودكاكينها بيتًا واحدًا، وحارة واحدة، وتجارة واحدة.

أسواق شعبية

تعج شوارع المنطقة التاريخية الضيقة مع نبض أسواقها بالحياة وبخطوات مرتاديها من مختلف الجنسيات. من أشهر الأسواق القديمة التي أصبح لها أيضًا وجه حديث، سوق قابل، فتلتقي فيه السلع القديمة، ويعد محطة جذب لزوار المدينة للوقوف عليه والتبضع منه، وأهم بضائعه الأقمشة، والأحذية، والذهب، وجميع مستلزمات المناسبات من حلوى، وبن، وساعات كهربائية. أما في سوق باب مكة فيمكن التزود بكل المواد الغذائية والتموينية، بدءًا من تنكة التمر، إلى الحبوب المطحونة وغير المطحونة، والعسل بأنواعه، إلى الأواني المنزلية.

واحد من أهم أسواق جدة التاريخية، هو سوق البدو الذي يقع بالقرب من بوابة مكة التي كانت تفد منها وإليها قوافل الحجاج إلى مكة المكرمة ومنها، وقوافل المزارعين والإنتاج الزراعي من الحبوب والتمور وغيرهما، حتى صهاريج المياه كانت تفد منها وإليها عن طريق بوابتها. الداخل من باب مكة، حاليًا، يلحظ وجود شارعين طويلين متفرعين، أحدهما على ناحية اليمين يؤدي إلى سوق البدو، والآخر على ناحية الشمال ويؤدي إلى سوق العلوي. المهم في سوق البدو هو أن الشارع الضيق الذي يقع عليه يقود إلى أقدم معلم في معالم جدة وهو المسجد الجامع العتيق. كما أنه سوق معروف بالعديد من الأنشطة، وكان مخصصًا لبيع القهوة العربية قديمًا. فكان كل من يقترب منه يشم من بعيد عبير الهيل، والقرفة، والزنجبيل، والزعفران، وداخله أقسام أخرى لبيع الأقمشة، والبهارات، والحبوب، وكل ما كان يجذب سكان البادية بعد ذلك في تنظيم بدائي لكنه راق جدًا.

من أهم الأسواق القديمة في مدينة جدة، سوق الندى ويعرف أيضًا بسوق الحوت نظرًا لانتشار الأسماك فيه. وهو يمتد بمحاذاة الجزء الغربي من سور المدينة، حيث يلتقي شماله بشمال غرب المدينة، وتتفرع منه عدة أسواق جانبية تزيد من أهميته وحيويته التجارية، ويضم العديد من المكتبات ويشتهر بصناعة الأحذية، والحقائب، وإصلاح الساعات. أما سوق الخاسكية المعروف بسوق السبحية، فيبتاع فيه المتسوقون السبح من الدكاكين المنتشرة في أرجائه، ويقع السوق جنوب غرب شارع قابل. يعد سوق الخاسكية من أهم محطات المقيمين ممن يعملون في جدة، وكذلك الزوار والحجاج والمعتمرون لشراء التذكارات مثل المسابح، والأواني الفخارية، والأقمشة، وغيرها من الأشياء التي تحفل بها دكاكين السوق المحتفظة بطابعها الشعبي دون تحديث لها.

يقع سوق العلوي الفاصل بين حارة المظلوم شمالاً وحارة اليمن جنوبًا بين شارع قابل وشارع سوق البدو، ويتميز بعرض العديد من السلع والبضائع كالملابس، والبهارات، والمستلزمات المنزلية وغيرها، أي أنه يشارك سوق البدو في العديد من بضائعه.

 

x
You are looking for