فتحي سمير

 

مدينة أنيقة تكتنز في شوارعها إرثًا عريقًا يمتد لقرون خلت كانت فيها عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف، عُرفت بإمبراطورية النمسا والمجر وحكمتها عائلة هابسبورغ التي امتد حكمها لنحو ستة قرون انتهت بعد الحرب العالمية الأولى حين تداعى الحُكم الإمبراطوري وانتهى بالتنازل عن العرش لتنتهي حقبة الإمبراطورية العظيمة التي كانت قوة مسيطرة وسط أوروبا وشرقها.

إنها فيينا عاصمة النمسا التي رغم تخليها عن نظام حكمها الإمبراطوري قبل نحو قرن من الزمان، إلا أنها لا تزال تُفاخر بهويتها الإمبراطورية في كل شارع من شوارعها محتفظة بهذا التاريخ الممتد الذي يُطالع من نوافذ الأبنية العتيقة في أحيائها التاريخية كل عابر يحكي له قصصًا من تاريخ غابر، فما تلبث أن تنتهي حكاية إلا وتبدأ قصة جديدة في ركن آخر من شوارعها الجميلة.

تنام فيينا على ضفاف نهر الدانوب، وتمثل حاضنة أوروبية خضراء بصورة لا تضاهيها أي مدينة أوروبية أخرى، إذ تسيطر المساحات الخضراء في فيينا على نحو 50% من إجمالي مساحة المدينة، ما جعلها المدينة الأوروبية الأكثر خضرة، وهو التوازن الذي لم تستطع كثير من المدن الأوروبية الأخرى تحقيقه. كما تتيح فيينا لسكانها مجموعة من العوامل التي جعلتها أفضل مدينة للمعيشة على مستوى العالم وفق تصنيفات دولية عدة.

الوصول إلى فيينا متاح في رحلات الخطوط الجوية السعودية المباشرة من الرياض وجدة إلى العاصمة النمساوية. وبعد أن يحط الزائر رحاله في هذه المدينة الجميلة فإن أول ما يلفت أنظاره هو ذلك التناغم البديع بين كونها مدينة عصرية وتاريخية في الوقت نفسه. فطابع المدينة العصري لم يُخل أبدًا بهويتها ذات الإرث الإمبراطوري الطاغي على أرجائها خصوصًا مع التوغل أكثر نحو قلب المدينة التاريخي في الحي الأول، حيث تتزين بأنماط معمارية على الطراز الباروكي والطرازين القوطي والروماني اللذين يتجسدان في إبداعات عمرانية كتلك التي تضمها كاتدرائية القديس سانت شتيفانز التي يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر.

هذه الهوية العمرانية ما كانت لتحتفظ بها المدينة إلا بفرض إجراءات صارمة تمنع ملاك المباني من إجراء تعديلات خارجية على المباني الواقعة في هذه المنطقة التاريخية إلا وفقًا لضوابط تحفظ هوية المكان وتاريخه الممتد.

 

 


إقامة مُترفة

تبدأ الحكاية من قلب الحي الأول حيث الإقامة وسط الحي التاريخي الذي يجسد الهوية الحقيقية لفيينا، إذ كان هذا الحي النابض بالحياة هو مهد هذه العاصمة الإمبراطورية، حتى أنه كان محاطًا قديمًا بسور يحمي المدينة التي كانت تنحصر داخله حتى جرت إزالته، ليحل محله الطريق الدائري المعروف بـ "رينغ شتراسه"، وهو أكثر طرق فيينا نبضًا بالحياة واكتظاظًا بالسكان والمعالم.


في قلب الحي الأول وخلف مبنى دار الأوبرا الشهيرة، إحدى أشهر دور الأوبرا على مستوى العالم، يقع فندق "زاخر Sacher"، الذي يُجسد - إلى جانب كونه عنوانًا للإقامة المترفة - وجهة تاريخية تتبدى للوهلة الأولى في المبنى العتيق، الذي احتضن الفندق منذ عام 1876 بمقاهيه ومطاعمه وأثاثه العتيق، إذ كان هذا الفندق على الدوام وجهة السياسيين والفنانين والمشاهير من كل العالم، ويتجلى ذلك في عدد هائل من الصور التي تزين ردهات الفندق لكل من حط رحاله فيه يومًا ما. هناك حيث يمكن تجربة أشهر المأكولات المحلية الأصيلة في فيينا والاستمتاع بتناول "زاخر تورت – Sacher Torte" التي يُعرِّفها الفندق بأنها أشهر كيكة على مستوى العالم، منذ أن جرى تقديمها للمرة الأولى عام 1832على يد فرانتس زاخر.

 


كان الفندق دومًا وجهة لزوار دار الأوبرا الذين اعتادوا زيارة المطعم في أوقات مختلفة قبل العروض وبعدها، وذلك في وقت كان فيه الفندق هو الوحيد الذي يخدم زبائنه حتى وقت متأخر من الليل.

 


يضم الفندق قاعة ثريا هي الأولى في أوروبا التي جري تشغيلها بالكهرباء بدلاً من الشموع، وفي أرجائه تنتشر لوحات فنية تاريخية لفنانين لم تتسع ردهات الفندق لحملها، فجرى تزويد الغرف بها، إذ تضم كل غرف الفندق أعمالاً فنية أصلية يرجع بعضها لأكثر من مئة عام. وقد شهد ختام الجولة فرصة قدمها المسؤولون لنا لتزيين كيكة زاخر الأصلية، والتي يُنتج منها نحو 360 ألف كيكة سنويًا ليجري اليوم تصديرها إلى مختلف دول العالم.

 

 


في ضيافة التاريخ

التجول بين معالم الحي التاريخي تبدأ عادة من دار الأوبرا، هناك حيث تبدأ المعالم الموزعة على الطريق في الظهور واحدًا تلو الآخر، بدءًا بمتحف ألبرتينا الفني الذي يضم أكثر من 65 ألف عمل فني بين جنباته، والذي يحظى بأفضل إطلالة على دار الأوبرا حيث يحرص الزوار على ارتقاء درجاته المزينة بالأعمال الفنية الشهيرة، وذلك لالتقاط صور في غاية الجمال.

من ألبرتينا إلى الشوارع الضيقة التي تُعبّر عن سمت المدينة التاريخي، حيث تنتشر المحال التجارية الصغيرة التي تبيع التذكارات السياحية للزوار، وصولاً إلى تلك الإطلالة المهيبة على قصر هوفبورغ الإمبراطوري الذي يفتح ذراعيه بإطلالته المقوسة التي تشرف على الميدان وقبته الخضراء المزينة بالنقوش الذهبية، داعيًا الجميع لعبور بوابته واستكشاف أرجائه.

 

داخل القصر يمكن مشاهدة النمط المعماري الباروكي المعتمد في الأبنية المختلفة، ومكتبته الفريدة، وفي كل ركن من أركانه حكاية تُروى عن هذا الزمن الإمبراطوري، وشواهد من تماثيل تزين الساحات الداخلية. ومن أمام القصر الإمبراطوري يبدو مشهد عربات الخيول المعروفة بالفياكر مُحفزًا للتجربة مع تهافت كثير من السائحين على ارتيادها للتجول في أرجاء المناطق التاريخية في فيينا، حيث تعد الفياكر من أشهر العلامات المميزة للعاصمة النمساوية منذ وُجدت للمرة الأولى قبل نحو ثلاثمئة عام.

ومع الخروج من بوابة القصر الإمبراطوري يدلف السائح مباشرة نحو شارعين من أهم شوارع العاصمة، وهما شارع غرابن وشارع كارنتنر، اللذان يلتقيان في ساحة شتيفانز بلاتز. هناك حيث الفرصة مؤاتية للتبضع من أرقى العلامات التجارية في عالم الأزياء والكماليات، ويتخللها بعض المحال التي تبيع بأسعار مناسبة أيضًا.

على أطراف فيينا

في أحد أحياء العاصمة النمساوية الهادئة الواقعة على أطراف المدينة، قمنا بزيارة إحدى الشركات الناشئة التي تعمل في مجال الزراعة والاستزراع السمكي وهي شركة "بلون – blün" التي تعمل منذ نحو ست سنوات في تقديم منتجات غذائية من الخضراوات والأسماك، وهي الوحيدة في فيينا التي تعمل في مجال الاستزراع السمكي، لتزود مطاعم فيينا باحتياجاتها من الأسماك حتى باتت أفضل خيار لأشهر الطهاة في مطاعم فيينا، فضلاً عن المنتجات العضوية من الخضراوات التي يجري زراعتها في الصوبات الخضراء اعتمادًا على أساليب زراعة مستدامة، تقلل من استهلاك المياه، ولا يستخدم فيها المبيدات وإنما طرق مبتكرة لتعزيز مناعة النباتات. وبعد تذوق ما تنتجه الشركة من خضروات لذيذة انطلقنا إلى الطرف الآخر من فيينا حيث بدأت جولتنا للوصول إلى منطقة مزارع كروم العنب "Vineyards" التي تضم مروجًا ساحرة تمنح فيينا مساحات خضراء هائلة جعلتها واحة بديعة لا تضاهيها أي مدينة أوروبية أخرى. في هذه المنطقة يُشرف الزائر على مدينة فيينا بإطلالة علوية تكشف المدينة حتى الأفق الذي تظهر فيه التلال التي تحتمي بها فيينا من كل الاتجاهات. نظرة من هذا الارتفاع تكشف نهر الدانوب وسط المدينة والأبراج التي تنتشر في المنطقة المركزية، وأشهر المعالم. هذه الإطلالة يستمتع بها الزائر مع نسمات من الهواء العليل خلال تناول طعام الغداء من مطعم "Wieninger am Nussberg" الذي يقع وسط هذه المروج الساحرة.

تجسد زراعة العنب واحدة من أشهر الزراعات في هذه المناطق، ويُعد العمل عليها لإنتاج عصير العنب رائجًا، وقد وقفنا على مثل هذه الصناعة في أحد المصانع المحلية المسمى "Wieninger" التي تعتمد على الزراعة العضوية بالكامل، دون استخدام الكيماويات، حيث يجري قطف العنب وتنقيته بطريقة يدوية لفرز أفضل الثمار بعيدًا عن الآلات التي يجري استخدامها في مراحل لاحقة لعصر العنب واستخراج عصيره.


 

إحياء إرث قديم

من الفندق توجهنا في صباح يوم جديد نحو دار الساعات لوس هاوس Loos House، الواقعة في أحد المباني الشهيرة أمام قصر هوفبورغ الإمبراطوري. تجسد هذه الدار ولع النمساويين بإحياء تراثهم العريق، إذ قام مؤسس هذه الدار بإعادة إحياء علامة تجارية شهيرة للساعات جرى إنتاجها لأول مرة في موقع هذا المبنى وهي "Carl Suchy & Söhne" بعد أن توقف إنتاجها لنحو مئة عام.

يحكي روبرت بونكينهوفر مؤسس الدار التي تمارس أعمالها منذ نحو خمس سنوات أن إمبراطور النمسا كان زبونًا لدى الدار وقد قام بشراء إحدى الساعات، وقد ظلت الدار تعمل جيلاً بعد جيل حتى اندثرت، وأُعيد إحياؤها مرة أخرى كجزء من إحياء الإرث النمساوي العريق المتخصص في صناعة الساعات.

تحتل الدار موقعها في مبنى ذي طابع معماري حداثي يختلف عن محيطه العمراني الباروكي وذلك رغم تاريخه القديم الذي يرجع إلى العصر الإمبراطوري. وسبب ذلك أن المعماري الذي قام ببناء هذا المبنى أُعجب بالنمط العمراني الذي شاهده في الولايات المتحدة الأمريكية ورغب في تطبيقه في هذا المبنى في وسط فيينا، الأمر الذي أزعج الإمبراطور الذي كان يُطل على المبنى المقابل من شرفات قصره الإمبراطوري فكان يأمر بإغلاق الستائر حتى لا يرى المبنى، حتى أنه سأل حاشيته أن يطلبوا من صاحب المبنى وضع الزهور في شرفاته حتى يُمكنه النظر إليه.

 


إبداعات فاخرة

في آخر أيام الإقامة في فيينا كانت زيارتنا لإحدى أعرق دور الصناعات المتخصصة في عالم الثريات والكريستال والتحف والأواني المنزلية الفاخرة التي يرجع تاريخها إلى نحو مئتي عام إذ جرى تأسيسها عام 1823 وقد تعاقب على إدارتها ستة أجيال من العائلة حتى الآن. ترتبط هذه العلامة التجارية المعروفة باسم "Lobmeyr" بدول الشرق الأوسط في مراحل تاريخها، ومن ذلك أحد أهم مشاريعها التي تعاونت فيه مع المملكة العربية السعودية في سبعينيات القرن الماضي حيث كانت مُصنّعًا للثريات التي جرى استخدامها في المسجد الحرام في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، بنمط تصميم عربي يحمل نقوشًا إسلامية، هذا بالإضافة إلى أعمالها في مسجد المصطفى، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة المنورة أيضًا. وقد حرصت الدار على توثيق هذه التجربة في كتاب خاص تعرضه داخل متجرها في شارع كارنتنر أحد أشهر شوارع التسوق في الحي الأول، حيث يمكن للزوار زيارته والاستماع إلى قصص حول تاريخ الشركة من مسؤولي المعرض. هذا بالإضافة إلى تعاون الشركة صاحبة الإبداعات الفاخرة مع متحف متروبوليتان في نيويورك، والكرملين في روسيا لتزويد كل منهما بمجموعة من القطع الفريدة.

تمارس لوبمير أعمالها من مصنعها الواقع في قلب فيينا، والذي يعد مبنى تاريخيًا يرجع إلى القرن الثامن عشر، حيث ينشط الحرفيون في صياغة المعادن المستخدمة في صناعة الثريا والزجاج، في مختلف الأقسام وصولاً إلى صقل الزجاج في مراحل الصناعة النهائية، حيث يجري عرض المنتجات في معرض الشركة وسط الحي التاريخي.

 


مطاعم ومقاه

في فيينا يمثل الخروج إلى المقاهي والمطاعم ثقافة وولعًا خاصًا لدى السكان، إذ ينشط نحو 1100 مقهى في أنحاء المدينة لاستضافة الزوار في مختلف الأوقات، وتقديم أنواع القهوة والحلويات النمساوية الجميلة، وقوائم الطعام المحلية. وقد خضنا تجارب متنوعة خلال هذه الرحلة في عدد من المطاعم والمقاهي الجميلة، الموزعة في أنحاء المدينة، وعلى مقربة من المنطقة المركزية.

بعد جولة في أرجاء الحي الأول يحين وقت الاستراحة لالتقاط الأنفاس في مقهى "Café Landtmann" الواقع على مقربة من مبنى البرلمان، لذلك من المألوف مشاهدة السياسيين وبعض الفنانين يتناولون القهوة في هذا المكان. وفي المساء يصبح مطعم "Zum Schwarzen Kameel" وجهة مناسبة لتناول أطباق المطبخ المحلي التي يشتهر المطعم بتقديمها للزبائن.

 


في مقهى "Café Prückel" يمكن ملاحظة التصميم الداخلي الذي يرجع إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث يقدم المقهى الوجبات النمساوية المتنوعة، ومن بينها خيارات الطعام النباتية. يقع المطعم على الطريق الدائري "رينغ شتراسه"، وفي الطرف المقابل من الشارع يقع متحف الفنون التطبيقية، الذي يضم مطعمًا آخرًا ينبض بالحياة هو مطعم "Salonplafond"، ويعكس اكتظاظه بالزوار الشغف الكبير للسكان بثقافة الخروج إلى المقاهي. وبينما يستمتع الزبائن بتناول الوجبات من المطعم، يمكن سماع الموسيقا التي تتسرب من إحدى الساحات الداخلية للمبنى حيث يحتفل مجموعات من الشباب على أنغامها.

 


الشوكولاته والزهور

تشتهر فيينا بالحلوى والشوكولاته، ورغم أن أشهر أنواع الشوكولاته التي تميزها هي شوكولاته موزارت التي تعد مدينة سالزبورغ موطن نشأتها الأصلي، إلا أن الإبداع في هذا العالم بلغ مراحل متقدمة في مدينة الفن والموسيقا. وقفنا في إحدى ضواحي فيينا الواقعة على مقربة من شارع ماريا هيلفر على تجربة مبتكرة في "bluhendes Konfekt" الذي يعد صانع الشوكولاته الوحيد في العالم الذي يقوم بتزيين الشوكولاته بالزهور الحقيقة القابلة للأكل، وذلك بعد قطفها وتجفيفها من حدائق فيينا ليجري تقديمها في صورة جميلة لم يعهدها محبو الحلوى.

يبتكر المصنع في تقديم أطعمة جديدة يجري فيها خلط الفاكهة بعضها ببعض مع الشوكولاته وتزيينها بالزهور لتقديم تجربة لا مثيل لها لعشاق الإبداع  في عالم الشوكولاته.

على مقربة من هذا المتجر يقع شارع ماريا هيلفر الذي كان خير ختام في زيارة هذه المدينة الساحرة، حيث تنتشر متاجر التسوق التي تعرض الأحذية والحقائب والساعات والنظارات والملابس وغير ذلك من مستلزمات، حيث الفرصة المثالية للتسوق وشراء تذكارات لرحلة لا تنسى إلى هذه المدينة الساحرة التي تسكن قلب أوروبا.

 

 


معالم مهمة في فيينا

 

قصر شونبرون - Schönbrunn Palace

القصر الإمبراطوري الصيفي الواقع على أطراف فيينا. يضم نحو 1441 غرفة، ويشتهر بمروجه المترامية، وحديقة الحيوان الشهيرة بداخله.

 

 


ملاهي براتر - Prater

تُعد ملاهي براتر أشهر وجهات الترفيه في العاصمة النمساوية فيينا، وتضم عجلة فيريس Feriss Wheel التي جرى افتتاحها عام 1897.

 

 


متنزه شتاد – Stadtpark

يُعد المتنزه الرئيس في العاصمة فيينا، ويضم جداول مياه ومروجًا خضراء يستمتع الزوار بها مع إمكان الولوج إليه مجانًا.


x
You are looking for