تقع سالزبورغ، رابع أكبر مدن النمسا، شمال جبال الألب، على الحدود الألمانية، على بعد نحو 150 كيلومترًا شرق ميونيخ، و300 كيلومتر غرب فيينا، و16 كيلومترًا من إحدى أعلى قمم جبال الألب، جبل أنترسبيرغ الذي يبلغ ارتفاعه 1972 مترًا، والذي يتيح تسلقه عبر «التلفريك» إطلالة بانورامية رائعة على المدينة القديمة، خصوصًا مع تساقط الثلوج في فصل الشتاء.
قلعة الملح
اسم سالزبورغ يعني «قلعة الملح». لا غرابة في ذلك، ما دام الملح هو مصدر الثروة، ومعين الرفاهية التي عاشت فيها المدينة التي عرفت بمناجم الملح وبازدهار هذه الصناعة الحيوية بالغة الأهمية، خلال القرن التاسع عشر حتى قبل ذلك.
من أشهر مناجم الملح في سالزبورغ، منجم هالاين الذي يعد الأقدم على مستوى العالم، ويقع عند جبل دورنبيرغ بالقرب من قرية هالاين التي تبعد نحو 20 كيلومترًا عن المدينة. يمثل المنجم إرثًا مهمًا يؤرخ لنشاط اقتصادي مارسه السكان لعدة قرون. وتمثل زيارته اليوم، فرصة للوقوف على آثار مدهشة خلّفها العاملون في هذا الموقع الذي يكشف لزواره عن كنوز احتفظت بها أنفاقه الممتدة على مسافات طويلة لقرون عديدة.
عمارة ثرية على مر العصور
تتجسد العمارة الرومانية والقوطية في قلعة هوهن، إحدى أكبر القلاع التي ترجع إلى القرون الوسطى في أوروبا. انطلق بناء القلعة في عام 1077م، وتم تجديدها في أواخر القرن التاسع عشر، لتصبح بعد عمليات التوسعة، أحد المعالم السياحية الرئيسة في سالزبورغ.
في نهاية القرن السادس عشر، تغيرت ملامح المدينة التي نفَّضت عنها غبار العصور الوسطى، لتتحول إلى مدينة من عصر النهضة، يقف كثير من المعالم فيها شاهدًا على تحولات جوهرية تجسَّدت في رموز معمارية لعل أبرزها قصر هيلبرون الواقع جنوب سالزبورغ، الذي يشتهر بحدائقه البديعة، وبروعة المساحات الخضراء المحيطة به، ونوافيره التي تجذب باندفاعات مياهها المفاجئة كثيرًا من السياح في فصل الصيف.
من أجمل نماذج الهندسة المعمارية الحديثة في سالزبورغ أيضًا، قصر المهرجانات الذي يضم ركحًا يعد من أكبر قاعات العرض في العالم، ويلِجه الزوار عبر خمس بوابات برونزية مَهيبة. أما جامعة الموسيقا والفنون المسرحية «Mozarteum»، فتتربع في حديقة ميرابل التي تعد تحفة فنية في عالم البستنة، ويرجع تاريخها إلى عام 1690، وتمثل بنافورتها الشهيرة معلمًا رئيسًا للجذب السياحي في المدينة. تضم الحديقة قصرًا يرجع تاريخه إلى عام 1606 تزيِّن قاعاته زينة رائعة. وقد شهدت الحديقة في عام 1965، تصوير فيلم «صوت الموسيقا The Sound of Music» الشهير.
يضم وسط المدينة إلى جانب المباني التاريخية، عددًا وافرًا من المواقع السياحية، التي جعلت من سالزبورغ القديمة متحفًا فنيًا مثيرًا للإعجاب، وهو ما دعا إلى إدراج المدينة القديمة، في عام 1997، على قائمة اليونسكو للثقافة والتراث.
التاريخ والفنون
تمثل زيارة المتاحف شغفًا مثيرًا لدى من يقصدها من السياح المولعين بالبحث عن التاريخ. وتمنح سالزبورغ ضيوفها فرصة الاطلاع على مقدار هائل من الآثار تكتنزها متاحفها التي تضم قطعًا ثمينة، ومقتنيات تحتفي بتاريخ المدينة وحياة سكانها على مر العصور، إلى جانب ما تشكله من إضافة في مجال الفن والهندسة المعمارية، والعلوم، والأدب، والموسيقا، ومشاهير الأعلام الذين مروا بها.
من عبق التاريخ إلى عالم الحداثة، حيث متحف سالزبورغ للفنون الحديثة الذي جرى افتتاحه عام 2004، ويجسد عبر إطلالة مبناه المعاصر رمزًا لإبداع فني متناهٍ يتجلى من خلال ما يحتويه في داخله من روائع تؤرخ للفنون على مدى القرنين العشرين والحادي والعشرين.
مسقط رأس موزارت
يتمثل سحر شارع غيتريدغاسة، في بيوته الضيقة التي تشكل نموذجًا مثاليًا لهندسة المدينة المعمارية في العصور الوسطى، وممراته الملتوية وساحاته الجميلة، ومحلاته التجارية الفاخرة التي تبيع الجواهر، وتجذب كثيرًا من عشاق الزينة والحلي، وكذلك متاجر العطور والتحف، إضافة إلى ساحاته الصغيرة التي توفر فضاءً مثاليًا يعج يوميًا بالعروض الموسيقية والفنية، ويقدم كل فناء فيه أسلوبًا فريدًا للأجواء الأكثر متعة.
في هذا الشارع العتيق وفي بيت بالطابق الثالث، ولد فولفغانغ أماديوس موزارت، مؤلف الموسيقا العالمي الشهير في 27 يناير 1756. ثم حولت مؤسسة موزارت الدولية في يونيو 1880، البيت الذي عاش فيه الموسيقار مع أسرته لسبعة عشر عامًا، إلى متحف هو الأول في مسقط رأسه، وأصبح فيما بعد وجهة ثقافية لآلاف الزوار من مختلف أنحاء العالم.
نزهة جميلة
تستمد سالزبورغ جمال طبيعتها من التكوين الجغرافي الرائع الذي تتميز به ولاية سالزبورغر لاند، إذ تحظى المقاطعة بسلسلة من البحيرات العذبة تُعرف بالمثلث الذهبي، منها بحيرات وولف غانغ سي، وسانكت جيلجن، وموندسي التي تسمى بحيرة القمر. لذا يعد التنزه في أرجاء المدينة والبحيرات المحيطة تجربة ماتعة لا تنسى. ما زالت عربات الخيل حتى اليوم تحاول مقاومة هجوم سيارات الأجرة المتعجلة، وتثبت من خلال أصوات حوافر خيولها على الأرصفة، وحركتها الرتيبة عبر شوارع المدينة، أنها الأنسب للقيام بجولات هادئة تتيح التقاط أكثر المشاهد تفردًا وبساطة، وتمنح السرور والاسترخاء في تجربة نادرة لا تغني عنها السيارات ولا الدراجات.
كما يمثل التنزه على صفحة مياه نهر سالزاخ متعة لا تضاهى، وفرصة لاستعراض بانورامي لأجمل مناظر المدينة وسلسلة جبالها الخلابة. تبدأ الرحلة على متن قارب أماديوس سالزبورغ الذي يتفرد بتصميمه، وذلك عند جسر ماكارت الشهير، ملتقى السياح الذين يفضلون الإطلالات النهرية من أعلى هذا الجسر العتيق. ثم تنتهي الرحلة بعودة القارب الشهير إلى الموقع نفسه الذي انطلق منه، عقب جولة يتيح خلالها لركابه استعراض حقب زمنية مختلفة تجسدها المعالم المعمارية لسالزبورغ، ليبدأ المتنزهون في البحث عن تجربة فريدة وشغف متجدد في ضواحي المدينة الجميلة.
سالزبورغ مدينة الفنون والشوكولاته
تحتفي سالزبورغ بمهرجانها العريق للموسيقا، والذي ظل منذ إنشائه عام 1920، أبرز المهرجانات التي تجمع فنون الأوبرا والمسرح والحفلات الموسيقية الكلاسيكية. وقد احتفى المهرجان في عام 2006، بموزارت بمناسبة مرور 250 عامًا على مولد الفنان العالمي، عبر عزف 22 أوبرا من مقطوعاته الخالدة.
ليست الموسيقا هي المظهر الوحيد للذائقة الفنية في هذه المدينة الساحرة، وإنما للأطايب أيضًا نصيب من جاذبيتها، حيث تشكّل كريات الشوكولاته الشهيرة «موزارت كوغلن» مذاقًا رائعًا يحرص زوار سالزبورغ على تذوقه واقتنائه. هذه الشوكولاته ابتكرها حلواني سالزبورغ بول فورست عام 1890، وما زال مالك المؤسسة الحالي نوربرت فورست، يصنع هذه الشوكولاتة حتى اليوم وفق وصفة جده الأكبر.