فتحي سمير

حينما يخطط الإنسان لرحلة سياحية إلى وجهة خارجية، غالبًا ما يضع الوجهات الأكثر شهرة والمدن الكبرى على رأس القائمة التي يخطط لزيارتها. إنه أمر شائع جدًا وله مُبرراته التي لا يمكن دحضها. لكن وعلى الرغم من ذلك يظهر قلة من المغامرين والمستكشفين ممن يرغبون في خوض تجارب مختلفة في وجهات غير مألوفة تمنحهم فرص استكشاف لم يعهدها غيرهم، أو ربما تفرضها رحلة عمل يقف فيها الإنسان على روعة المدن الصغيرة والريف الحالم بطبيعته الهادئة التي تستكين فيها الروح وينعتق فيها الإنسان من ضجيج المدن الكبرى.

فرصة حظينا بها ذات يوم في نهايات فصل الربيع حينما قادتنا رحلة عمل إلى بعض المدن الصغيرة الواقعة شمال غرب المملكة المتحدة، فكانت روعة الاكتشاف المذهل حينها مفاجأة غيّرت انطباعاتنا المسبقة التي تُهمل مثل هذه الوجهات على الرغم مما تضمه من جمال وسحر وتاريخ ضارب في القدم يصادف الزائر في كل مكان تقريبًا، في وقت يصعب فيه العثور على مثيله في المدن الكبرى حيث يتوارى الجمال بين العمران الحديث وتتشتت المواقع التاريخية بين وجهات لا حصر لها تُربك الزائر وتتجاذبه بين بعضها بعضًا.

بدأت الرحلة من المملكة العربية السعودية على متن طائرة الخطوط السعودية حيث تنطلق الرحلات مباشرة بين جدة ومانشستر، هذه المدينة التي تعد عاصمة الشمال الإنجليزي، وإحدى أهم الوجهات في بريطانيا بعد العاصمة لندن.

بعد أن هبطت الطائرة بدأت الرحلة نحو مدينة صغيرة هي مدينة كرو الواقعة على بعد أقل من ساعة من مطار مانشستر الدولي إلى جهة الجنوب.

المروج الخضراء في مقاطعة شيشاير


إقامة بين الطبيعة

كانت الساعة تشير إلى السابعة مساءً حينما وصلنا إلى وجهتنا في فندق "Crewe Hall Hotel & Spa"، بعد رحلة مثيرة وسط المروج الخضراء التي تشتهر بها المملكة المتحدة وريفها الجميل، حيث تنتشر المراعي في كل مكان، وتعد مشاهدة الأغنام والأبقار ترعى على جانبي الطريق في هذه الطبيعة الأسطورية أمرًا مألوفًا.

يقع الفندق وسط واحة خضراء على أطرف مدينة كرو ويملك مدخلاً يقود الزوار إلى هذا المبنى التاريخي الذي يعود إلى بدايات القرن السابع عشر حين بناه السير راندولف كرو. ويمكن من الإطلالة الأولى توقع ما يضمه بين جنباته من تاريخ عريق، لاسيما حينما يدلف الزائر إلى البهو الرئيس حيث تُفاجئ القاعة ضيوفها بالزينة الخشبية المنحوتة بصورة متقنة والمدفأة والأعمال اليدوية المنتشرة التي تسافر بالزائر إلى قرون خلت كان فيها هذا الفندق قصرًا بهيًا قيل عنه في حينها أنه "جلب لندن إلى مقاطعة شيشاير"، وذلك تعبيرًا عن حجم القصر وجماله وإبداع تصميمه شأنه في ذلك شأن القصور الإنجليزية في لندن.

مبنى فندق كرو هال التاريخي


مكثنا تلك الليلة في هذا الفندق التاريخي الجميل، قبل أن نتوجه في صباح اليوم الباكر في رحلة استكشاف لهذه الطبيعة وأبرز معالم المدينة.

بهو الفندق


السكينة الكبرى التي تحظى بها هذه المنطقة في الوقت الراهن ربما لا تشي بالشيء الكثير عن تاريخها الحيوي فيما مضى، حيث اعتاد البريطانيون في منتصف القرن الثامن عشر أن يستيقظوا على ضجيج الآلات التي جسدت مهد انطلاق الثورة الصناعية التي بلغت كل أوروبا وكانت فيها مانشستر بمحيطها الحضري نواة الميلاد الحقيقية لعصر النهضة الصناعية التي استمرت لعقود قبل تتداعى الأوضاع الصناعية في المنطقة على إثر نهوض قوى اقتصادية كبرى منحت العالم اليوم فرصًا للإنتاج بتكاليف أقل ومنها الصين التي غيرت وجه الاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من هذا الواقع الجديد إلا أن المنطقة نجحت في الاحتفاظ بدرر من تاجها النفيس ومنها على سبيل المثال، مصنع سيارات بنتلي الفاخرة الذي يقع في مدينة كرو وكان أحد الوجهات التي قمنا بزيارتها خلال هذه الرحلة للوقوف على إبداع الصناعة الإنجليزية في عالم السيارات الفاخرة.

تعد كرو مدينة تقاطعات كبيرة للسكك الحديدية في إقليم شيشاير، وإلى جانب كونها موطنًا لمصنع بنتلي كانت أيضًا حتى عام 2002 موطنًا لصناعة شقيقاتها الفارهة من سيارات رولز رويس.

تحتفظ المدينة بسمتها التاريخي وبعض المعالم التي يمكن المرور عليها خلال رحلة سريعة، ومن ذلك نصب الحرب التذكاري، وملعب مورنفلاك الذي يحتضن مباريات فريق كرو ألكساندرا لكرة القدم، وكنيسة سانت ماري ذات النمط المعماري الفريد.

إلى تشستر

جزء كبير من متعة السياحة في المدن الصغيرة هو الانتقال السريع من محطة إلى أخرى في جولة استكشاف كبرى يقف من خلالها السائح على كثير من المدن والبلدات الصغرى بما تضمه من تاريخ ومعالم وطبيعة جميلة. من هذا المنطلق كانت نهاية اليوم موعدًا للانطلاق إلى مدينة أخرى مجاورة وهي مدينة تشستر الواقعة إلى الغرب من كرو على مقربة من مدينة ليفربول.

تكشف تشستر في أول إطلالة لها عن عراقتها وعمرانها الروماني المستمد من كونها نشأت حصنًا رومانيًا في القرن الأول من الميلاد. أمر يشعر به الزائر في الأسوار الرومانية المبنية من الحجر الرملي المحلي، مع المدرج الروماني الواقع بالمدينة.

في منطقة التسوق وسط المدينة التي تُعرف باسم روز Rows يتقاطر السكان والزوار لقضاء احتياجاتهم من المحال التجارية المنتشرة، وسط نمط عمراني تاريخي يعرف باسم نمط تودور البريطاني الذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر، ويشتهر بقمم المباني المثلثة.

وسط مدينة تشستر


كانت وجهتنا للإقامة في تشستر أحد فنادقها المميزة وهو فندق أبودي تشستر Abode Chester الواقع وسط المدينة، والذي يتميز بتصميمه الدائري وواجهاته الزجاجية التي تُشرف على مبنى المحكمة التاريخي في المدينة. وانطلاقًا من الفندق يستكشف النزلاء مضمار الخيل الشاسع الذي يعد أحد أهم العلامات المميزة لهذه المدينة.

إطلالة من الفندق على مضمار خيل تشستر


إلى جانب المضمار يمر نهر دي الذي تقع تشستر على ضفافه وعلى الضفة الأخرى من النهر في مقابل مضمار الخيل تقع غابة مثيرة للاستكشاف قادتنا إليها الجولة وسط المروج الخضراء، هناك حيث يتقاطر المتنزهون والرياضيون لممارسة الرياضة وسط هذه الطبيعة الجميلة.

تعد كاتدرائية تشستر ذات النمط المعماري القوطي إحدى أشهر الوجهات التي يقصدها الزوار، بينما تعد حديقة حيوان تشستر وجهة عائلية متميزة.

بُنيت الكاتدرائية بنمط معماري قوطي


رحلة إلى ويلز

بعد الانتهاء من قائمة الوجهات داخل تشستر حان التوجه في صباح اليوم التالي إلى الساحل الغربي البريطاني في مقاطعة ويلز. كانت حلبة أنجليسي لسباق السيارات مقصدنا. تقع الحلبة على بعد نحو ساعتين من المدينة وتُشرّف على بحر أيرلندا. تجسد الرحلة إلى هذه الحلبة بين المروج الخضراء تجربة فريدة اضطررنا فيها أحيانًا للقيادة على طرق ريفية صغيرة للغاية بالكاد تمكنت خلالها السيارات التي واجهتنا من العبور واستكمال الرحلة.

كانت وجهتنا إلى الحلبة من أجل تجربة قيادة إحدى السيارات الفاخرة، وقد كانت تجربة مثيرة بحق لاسيما مع تغير المناخ خلال هذه التجربة وهطول الأمطار ثم سطوع الشمس، وكلها أجواء ليست غريبة عن أراضي المملكة المتحدة. بالإضافة إلى تنوع التضاريس داخل الحلبة حيث يرتقي الطريق ليشرف على البحر من علٍ في أثناء القيادة بسرعة تارة، وبهدوء في أثناء تجاوز المنعطفات تارة أخرى.

لقطة جوية لحلبة أنجليسي


تجربة الطعام البحري

بعد يوم حافل خلال الرحلة يحين موعد تناول الطعام في مطعم ويلزي على مقربة من حلبة أنجليسي، وهو مطعم أويستر كاتشر، الذي يقع وسط الطبيعة ولا يجاوره أي أبنية من كل الاتجاهات. يوفر المطعم جلسات داخلية وخارجية، إلا أننا اخترنا الجلوس بالداخل بسبب الأجواء الباردة. وبعد تناول وجبة من الأسماك والبطاطس المقلية، بدأت رحلة الانطلاق للعودة مرة أخرى إلى مانشستر حيث الاستعداد للسفر إلى المملكة العربية السعودية كل حسب رحلة عودته.


يمكن ببساطة من خلال هذه الرحلة أن يدرك المرء أن السياحة في المدن الصغيرة تجربة فريدة يجد فيها الإنسان فرصة لخوض تجارب غير مألوفة، لكنها ماتعة ومثيرة خصوصًا أنها محطات عابرة يجري فيها استكشاف الكثير من المدن والبلدات التي تزداد بهاءً وسحرًا لاسيما بوقوعها بين المروج الخضراء في الريف الإنجليزي الحالم.

x
You are looking for