لم يكل البحر الأبيض المتوسط، منذ آلاف السنين، من مغازلة تضاريس حسناء تونسية خجولة تعتكف في أقصى شمال البلاد الغربي، بل رسا عند شواطئها، ليمعن التأمل في حسنها، ويحتضن رمالها ويعزز موقعها، ويحرس كنوزها، ويمنحها من هدوئه، وهيبته، وغموضه، وعمقه، وأسراره، ورحابته، متنفسًا وحلمًا لا يعرف الحدود.

لا يشبه طبرقة من حيث موقعها المتميز وطبيعتها الساحرة وحسنها الفريد، إلا مدن قليلة. إذ تجمع بين المكونات الطبيعية الثلاثة: البحر، والغابة، والجبل، فأصبح لطبرقة رصيد من مقومات الحسن بوّأها منزلة سياحية فريدة. فأخذت من الطبيعة سحرها، ومن البحر هدوءه، ومن الغابة غموضها، ومن الجبل شموخه.

تقع مدينة طبرقة على بعد 200 كيلومتر شمال العاصمة تونس، في موقع فريد يعتلي القارة الأفريقية بشموخ، ويرنو إلى شقيقتها الأوروبية باعتزاز، فخورًا بما يضمه من خصائص طبيعية مذهلة، وحياة بحرية متنوعة، وثروات تراثية هائلة.

البحر والجبال

يُحكم البحر الأبيض المتوسط سيطرته على طبرقة من الأمام، وتُطوِّقها الجبال وغابات البلوط والفلين من خلفها ومن جميع جوانبها. وتعد أهم منطقة سياحية في إقليم الشمال الغربي. يمكن الوصول إليها للمتعجّل، بالطائرة عبر مطارها الدولي الذي يقع على بعد حوالي 25 كيلومترًا من المدينة، أو برًا عبر طريق وعرة متعرجة. ما يجعل السفر إليها نهارًا أكثر أمانًا وإثارة.

يمكن للزائر الاستمتاع برحلة شائقة لا تُنسى، لما تتيحه من مفاتن طبيعية آسرة غاية في الجمال، بين الجبال التي تغطيها الغابات الكثيفة، وأشجار الصنوبر العبقة، والأودية الجارية، والسهول الخضراء المترامية، ومزارع القمح والزيتون التي تمتد على مدى البصر، والتي جعلت من المنطقة في عهد الرومان مخزن قمح روما. ولا يزال الشمال الغربي، حتى اليوم، من أخصب الأراضي التونسية وأشدها خضرة وجمالاً.

تتفرد طبرقة بساحلها اللازوردي الذي يبلغ طوله 25 كيلومترًا، وبتضاريسها الشاهقة، وأوديتها المتناثرة هنا وهناك، ومبانيها التراثية، وقلعتها الشهيرة حصن جنوة، أو القلعة الجنوية التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر للميلاد. أما صخورها المدببة، فتعلو بارتفاع يبلغ حوالي عشرين مترًا.

تَابْرَاكَا Thabraca

كانت قديمًا تسمى تَابْرَاكَا أو ثابركة، وتعني بلاد العليق أو موطن الظلال، وهو الاسم الفينيقي القديم لمدينة ضاربة في القدم، أسسها الفينيقيون منذ 2800 عام، وكانت مرفأ صيد صغير وشهير بما يحويه من ثروات، مثل المرجان، وجراد البحر.

عرفت طبرقة عصورًا من الازدهار طيلة القرنين الثالث والرابع الميلاديين، حين كانت المراكب الرومانية تحمّل عبرها الفلين والرخام والحبوب. ثم خضعت المدينة في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر إلى هيمنة جنوة، وحكمتها عائلة لوميليني الإيطالية الثرية التي عرفت بالتجارة. وكان أشهر ما أنجزته هذه العائلة هو الحصن الضخم الذي خلّفته قرب المدينة.

مدينة المرجان

تعد طبرقة إحدى أفضل الوجهات لممارسة الصيد البحري والغوص، وهي من أشهر مدن العالم في تصدير المرجان. إذ تشتهر المدينة الساحلية بصيد المرجان وبالشّعاب المرجانية ذات الألوان البديعة، البرتقالية، والصفراء، والبنفسجية، والخضراء.

يرتبط لون المرجان بالمدينة ارتباطًا وثيقًا، إذ إنه إضافة إلى أهميته كحلي للحسناوات، تتزين به بيوت طبرقة أيضًا، من خلال تيجان الأسقف القرميدية الحمراء التي تكلّلها وتسِمها بطابع معماري مميز.

البوابة البحرية

تمتلك المدينة الساحلية أشهر ميناء بحري يلج منه المبحرون على متن المراكب واليخوت. من خارج تونس إلى داخلها، وهي بذلك بوابة الوصول الأولى لجميع القادمين بحرًا من شمال المتوسط إلى الأراضي التونسية.

تشكل طبرقة إطارًا طبيعيًا يعد الأمثل لممارسة السياحة الرياضية، إذ يتيح موقعها المتميز، إلى جانب الغوص والصيد البري والبحري، القيام برياضات المشي والتنزه وركوب الخيل، في أجواء طبيعية ومناخية رائعة.

كما تتمتع المدينة ببنية تحتية سياحية تدعم موقعها الجغرافي الفريد وبيئتها الطبيعية الثرية، تتمثل في باقة من الفنادق والمنتجعات الحديثة الراقية من فئة خمسة نجوم، ومرافق سياحية علاجية متكاملة، وملاعب للغولف من بين الأجمل في منطقة حوض المتوسط، ونادٍ لليخوت، وعدد من أندية الغوص. ليساهم ذلك كله في جعل طبرقة وجهة مفضلة للتونسيين، وللسياح العرب والأجانب لقضاء عطلاتهم.

موسم الفنون

تتحول ليالي المدينة الحالمة التي تنام برفق وأمان على ساحل المتوسط يحرسها البحر، وتسهر الغابة والجبل على راحتها، في الصيف، إلى عالم يعمره الفن وتملؤه البهجة والسرور، إذ تصبح طبرقة فضاء مفتوحًا يفتح ذراعيه لعشاق الموسيقا الذين ينتظرون بفارغ الشوق موعدهم كل عام، مع أضخم التظاهرات الفنية الدولية التي تستضيف مشاهير الموسيقيين العالميين. وتعيش المدينة على وقع مهرجانات كبرى للموسيقا العالمية، هي مهرجان طبرقة للجاز، ومهرجان موسيقا العالم، ومهرجان الموسيقا اللاتينية، ومهرجان موسيقا الراي.

تلك هي طبرقة التي تراكمت في فضاء إطلالتها الفاتنة مفردات الجاذبية والجمال، وتجلَّت فيها مكونات طبيعية فريدة قلما اجتمعت لغيرها، حتى إنها في الشتاء تعيش في أجواء من نوع خاص، إذ تغطيها الثلوج، وتزهو طوال العام بأجوائها الرائعة الخلابة، ليجد فيها عشَّاق السفر كل ما ينشدونه من سحر وجمال.

x
You are looking for