• تتناثر النقوش الأثرية في منطقة نجران على الصخور في مواقع تمثل متحفًا مفتوحًا في محيط طبيعي يتسم بالجمال وروعة التكوين
  • تعد غابة سقام أحد أكبر المتنزهات الفريدة في نجران بمساحتها المقدرة بنحو خمسة ملايين متر مربع

 

محمد آل هتيلة

تصوير: حسن آل هتيلة

 

على أطراف الربع الخالي من جهة الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية تستريح مدينة نجران في أحد الأودية التي تُشرف على كُثبان أكبر صحراء رملية في العالم. هناك حيث يبدأ بحر الرمال الشاسع في الانحسار أمام تكوينات السلاسل الجبلية الممتدة من الجنوب إلى الشمال، لتحرس نجران بين قممها التي تحيط بها، فتتمدد المدينة وادعة بأحيائها، وبيوتها، ومزارعها في وادٍ يبدأ من جبل رعوم غربًا حتى مشارف الربع الخالي شرقًا، حيث لا يتوقف زحف العمران عن مداهمة الصحراء.

لطالما تميزت نجران بأهميتها الاقتصادية، والثقافية، والدينية على مر العصور. والشواهد على ذلك كثيرة، وتُبرزها النقوش الصخرية، والآثار، وكتب الرحالة، والمؤلفون، والباحثون الذين تعرضوا للمنطقة، والتي رصدت مكانة نجران بين مجموعة الممالك التي أسست الحضارة العربية الجنوبية، لتصبح إحدى أهم المدن التي لعبت دورًا مهمًا ومميزًا على مدى التاريخ.

إن أول من أشار إلى مدينة «نجران الأخدود» هم المفسرون، في بيان تفسير الآية الرابعة من سورة البروج {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ}، وسار على نهجهم أصحاب السِّيَر، والمؤرخون العرب وأولهم الهمداني في القرن الرابع الهجري عند حديثه عن أوطان قبيلة بالحارث بن كعب التي سكنت منطقة نجران، بقوله: «والهجر هي القرية الحديثة، والهجر القديمة في موقع الأخدود».

النقوش التاريخية

تتناثر النقوش الأثرية في منطقة نجران، ومنها نقوش الخيل التي تدل على فروسية أهل المنطقة، وأهمية الخيل في تلك الحقبة الزمنية، لتجسد هذه المواقع متحفًا مفتوحًا كبيرًا يجذب الباحثين عن التاريخ في محيط طبيعي يتسم بالجمال وروعة التكوين، يعكس حرفية عالية في نمط النقوش التي تُترجم حياة أهل المنطقة الفنية الراقية التي كانوا عليها في ذلك الزمان.

ازدهار هذه الفنون في النقش برز وتلألأ عبر تربة خصبة مهدت لهذا التألق، ومن ذلك حالة المجتمع ذاته الذي عكست آثاره مظاهر التعاون بين الرجل والمرأة، وحياة الترف الدالة على وجود حضارة مميزة في منطقة نجران في تلك الفترات الزمنية المتعاقبة. ففي حمى وحدها أكثر من ستة آلاف نقش بين مسندي، وثمودي، وإسلامي، ولوحات صخرية ضخمة جدًا لرسوم ونقوش مهمة مرشحة للإدراج ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي قريبًا.

إرث عمراني

يعد التراث العمراني في منطقة نجران شاهدًا على حضارة المنطقة عبر الأجيال والعصور المتعاقبة، ورمزًا لتقاليدها الأصيلة وتاريخها العريق. ويعد الحجر والطين والأخشاب أهم مقومات المباني التي تتميز باعتدال الأجواء داخلها صيفًا وشتاءً.

تجري عملية البناء للبيت النجراني القديم المسمى بالدرب عبر بعض المواد التي تستخدم في خطوات البناء، ومن ذلك الوثر، الذي يوضع أساسًا للبيت من الحجارة والطين، والمدماك، والصماخ، وهي لياسة السقف من أسفل بالطين، بينما يجري تصنيع السقف نفسه من جذوع النخيل وسعفها، وأشجار الأثل أو السدر. أما القضاض فهو الجير الأبيض المستخدم في إعطاء اللون. وتجري في عملية التعسيف إعداد الدرج والتلييس بالطين.

آثار ومواقع سياحية

«ارحبوا في نجران»، بهذه الكلمات يستقبل أهل المنطقة زوارهم، وقاصدي مدينة نجران التي أصبحت الآن من أماكن الجذب السياحي، والثقافي، والاقتصادي بسبب مكانتها التاريخية.

يمكن لزائر نجران اليوم أن يستمتع بتنوعها البيئي بين الجبال والسهول والصحراء، فعشاق تسلق الجبال والسير فيها على موعد مع زيارة قلعة رعوم، إحدى القلاع التاريخية التي تستقر على جبل رعوم. بينما يتجسد إرث المنطقة العمراني في قصر العان، وقصر الإمارة، وقصر سعدان، فضلاً عن كثير من القرى في نجران التي تحتفظ بهويتها المعمارية الحقيقية للمنطقة.

الطبيعة الجميلة في نجران يعكسها كثير من المشاهد التي تتجسد في كونها واحة جميلة تضم عددًا من المتنزهات الطبيعية، على رأسها متنزه الملك فهد «غابة سقام»، الذي تُقدر مساحته بنحو خمسة ملايين متر مربع. بينما يعد متنزه الجزم الواقع في محافظة ثار من إحدى وجهات الجذب في المنطقة أيضًا، بالإضافة إلى متنزه موعاه الواقع في بدر الجنوب.

في مدينة الأخدود الشهيرة يقف الزائر على أطلال المدينة القديمة وآثارها التاريخية، وكذلك المتحف الإقليمي لها. أما موقع حمى الأثري فيجسد موقعًا ثريًا تنتشر فيه الرسوم والنقوش الصخرية، إلى جانب آبار حمى التي يرجع تاريخها إلى آلاف السنين.

ومن الآثار إلى شغف آخر، يعيش الزائر تجربة فريدة في البلدة القديمة بأسواقها الشعبية، ومنها سوق الجنابي، وسوق التمور، وسوق الأدوات الشعبية، والسوق النسائية، وغيرها.

هذه التجربة المتكاملة في نجران تصل إلى ذروتها عند زيارة صحراء الربع الخالي الشهيرة بكثبانها الرملية الساحرة، خصوصًا في هذه الأوقات التي يكون فيها الجو معتدلاً. ومن هناك يمكن زيارة محمية عروق بني معارض الطبيعية.

نجران هي إحدى الحواضر المتطورة، ويشهد على ذلك سَدُّها الشهير، سد وادي نجران، الذي يعد من أكبر سدود المملكة، وجامعتها التي تضم حوالي 15 كلية، إضافة إلى مطارها الإقليمي.

يقول الشاعر د. زاهر بن عواض الألمعي في قصيدته «ذُرَا نجران»:

ففي نَجْرَانَ تِبْرٌ من رُغَـامٍ                        كَرِيمِ النَّبْتِ من أزْكَى النَّبَـاتِ

ورَقْرَاقُ النَّمِيرِ يَفِيضُ بَحْرًا                      على الجَنَبَاتِ بالعَذْبِ الفُرَاتِ

وقُلْ مَا شِئْتَ من أخبارِ قومٍ.                    ففي «الأُخْدُودِ» أنواعُ العِظَاتِ

 فقدْ مَرَّتْ بِها الأَطْوَارُ تَحْكِي                    حَضَارَاتِ الأَنْوَاعِ الفئاتِ

  

كما قال يصف النهضة التعليمية فيها:

 

نَجْرَانُ باتَ النورُ فيكِ يُشَعْشِعُ         والعِلْـمُ يُشْرِقُ والشَّذَى يَتَضَوَّعُ

 نَجْرَانُ يا مَهْدًا أناخَ بِسَفْحِهِ.          شمُّ الأنُوفِ وفي رُبَاكِ تَرَعْرَعُوا

 نَجْرَانُ من قِدَمِ العُصُورِ تَحَدَّثُوا        عَنْكِ الرُّوَاةُ فَمَجَّدُوكِ وأَبْدَعُوا

 واليومَ تَرْفلُ في ذُرَا العَهْدِ الَّذِي        أَمْسَى مَنَارًا في الجَزِيرَةِ يَسْطَعُ

 

x
You are looking for