ما أن تطأ قدما الزائر أرض العاصمة النمساوية فيينا حتى يدرك في طريقه من مطارها الدولي إلى وسط المدينة، أنه قد ولج للتو إلى واحة خضراء وسط الغابات المترامية على جنبات نهر الدانوب الذي يرافقه إلى وجهته نحو قلب فيينا التي تغطي المسطحات الخضراء نحو نصف مساحتها، ما يجعلها المدينة الأوروبية الأكثر خضرة. 

تتصدر فيينا قائمة ميرسر للاستشارات، بوصفها أفضل مدينة يمكن العيش فيها في العالم. وهو التصنيف الذي تصدرته فيينا خلال الأعوام العشرة الأخيرة مع ما تقدمه من مزيج فريد من الإبداع المعاصر، والتراث الإمبراطوري المستمد من تاريخها الممتد لقرون خلت، شهدت المدينة خلالها تغيرات عميقة لاسيما على مدار القرن الماضي، لتتحول من عاصمة إمبراطورية متباهية إلى مركز حديث لأسلوب الحياة الأوروبي المعاصر. 

موطن الفنون 

تبدأ الجولة من الحي الأول، قلب فيينا النابض وكنزها الأسطوري، من أمام دار الأوبرا ذات المبنى التاريخي المهيب الذي بُني عام 1869، والتي تعد إحدى أعرق دور الأوبرا على مستوى أوروبا، بل رائدة في هذا الفن على النطاق العالمي. على ركحها عُزفت أجمل الأعمال الموسيقية لأشهر الموسيقيين في بلد الفن والموسيقا. حول هذا المبنى العريق تتراصف المعالم المهمة في العاصمة النمساوية، ومنها متحف ألبرتينا، الواقع إلى الجهة الخلفية من الأوبرا ويضم أكبر مجموعة من فن الغرافيك في العالم، مع ما يقرب من 50 ألف لوحة فنية ونحو 900 ألف مطبوعة. 

يدرك الزائر إذا ما تجول ليلاً في محيط دار الأوبرا ولع أهل فيينا بالفنون، وذلك حينما يشاهد جموعًا من الناس يستعدون للولوج إلى الدار للاستمتاع بعروضها. بينما يجلس جمع آخر من محبي هذا الفن أمام مدخل المبنى حيث نُصبت شاشة عرض كبيرة أمامها مقاعد مجانية يشاهد من يرغب من خلالها ما يجري عرضه داخل الأوبرا في أثناء مروره في الشارع في أجواء فنية خالصة. 

تتمتع فيينا بشهرة كبيرة حول العالم بوصفها مدينة الموسيقا. وهي تتفرد في كونها المدينة الوحيدة التي حفيت بهذا المقدار الكبير من المؤلفين الموسيقيين العالميين المرموقين، فشوبرت، وشتراوس، وشوينبيرغ، وألبان بيرغ، جميعهم ولدوا في فيينا. بينما اختار موتزارت، وبيتهوفن، وهايدن، وبرامز، ومالر، العيش فيها. 

 


كارتنر وغرابن 

مع استكمال الجولة في شارع كارتنر الذي تقع دار الأوبرا على ناصيته، سيجد الزائر نفسه وسط حشد كبير من أشهر العلامات التجارية العالمية التي تكتظ بها المنطقة، مانحة المتجولين فرصة شراء الهدايا التذكارية. ومع التوغل أكثر في كارتنر، تظهر كاتدرائية القديس استيفان الشهيرة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثاني عشر، وتتميز بمعمارها الروماني القوطي. في هذه الساحة يلتقي شارعا كارتنر وغرابن، حيث تستمر رحلة التسوق وسط زخم المتجولين في جنبات المحال التجارية والمقاهي التي تنتشر في كل مكان لتمنح من أصابه التعب فرصة التقاط الأنفاس واحتساء قهوته المفضلة. 

في نهاية شارع غرابن تتبدى قبة مدخل قصر هوفبورغ الإمبراطوري. هناك حيث تقف عربات الفياكر التي تجرها الأحصنة في محطة انطلاقتها لتحمل السائحين في أرجاء القصر الإمبراطوري ووسط فيينا للتعرف إلى أبرز معالم المدينة التاريخية. هذه العربات تجسد علامة راسخة، وملمحًا مهمًا في طبيعة الحياة في فيينا حتى أصبح من الصعب اليوم تخيل المدينة من غيرها. 

واحة خضراء 

على رأس حدائق المدينة تتربع حديقة شتادبارك التي تضم التمثال الذهبي الشهير ليوهان شتراوس، يضاف إليها غابات فيينا وكرومها ومزارعها، والأراضي الندية لنهر الدانوب. ولا يبعد الفردوس الطبيعي في براتر، سوى ثلاثة كيلومترات فقط عن قلب فيينا، حيث الفضاء المثالي للمشي أو الركض أو ركوب الدراجة. يضم متنزه براتر مركزًا ترفيهيًا، أبرز مواطن جاذبيته عجلة فيريس العملاقة، التي تُواصل منذ إنشائها 1897 الارتقاء بالناس إلى ارتفاع كبير لمشاهدة فيينا من الأعلى. 

في فصل الصيف تنتشر نحو 200 مليون نحلة في أجواء المدينة، حيث يُسمع صوت طنينها في أرجاء فيينا، كونها موئلاً طبيعيًا مثاليًا لهذه النحلات. وقد استقر نحل مدينة فيينا في معظم الأماكن المدهشة والأكثر بروزًا، إذ يمكن العثور على خلايا النحل على سطح دار الأوبرا، وسطح متحف كونسثيستوريشيس. 


إرث إمبراطوري 

منذ عام 1278 حكمت عائلة هابسبورغ الإمبراطورية النمساوية لمدة تربو على ستة قرون. لذلك تتميز المدينة بطرزها المعمارية التي تعود إلى العهد الباروكي تجسدها كثير من ملامح قصر هوفبورغ ومنه المدرسة الإسبانية لتعليم الفروسية الواقعة داخله. غير أن العمارة الإمبراطورية في فيينا ليست وحدها ما يجعل منها مدينة الجمال، فهي تزدهي أيضًا بمتاحف وأعمال فنية شهيرة على مستوى العالم. إذ يضم متحف فيينا للفنون الجميلة أكبر مجموعة في العالم من لوحات الرسام الشهير بروغل، فضلاً عن حجرة الفن كونستكامر التي تضم مجموعة فريدة من القطع الأثرية والمقتنيات الغريبة. 


في قصر شونبرون 

للوقوف على إرث المدينة الإمبراطوري يخصص السياح يومًا كاملاً لزيارة قصر شونبرون الإمبراطوري الذي تعكس إطلالته الأولى عظمة الإمبراطورية النمساوية في غابر الزمان وإرث عائلة هابسبورغ. في أروقة القصر يستمع الزائر في جولته من غرفة إلى أخرى إلى أبرز الأحداث التاريخية التي شهدتها كل قاعة وغرفة بالقصر. 

تفاصيل وزخارف تفوق الوصف إبداعًا وفنًا صيغت على مدى قرون وفي عهود مختلفة لأباطرة النمسا، وحكايات للإمبراطورة ماريا تيريزا وابنتها ماري أنطوانيت قبل زواجها من ملك فرنسا، وغيرهما ممن عاشوا في جنبات هذا القصر، الذي انتهى تاريخه الإمبراطوري في 1918 بعد أن تداعى حكم الإمبراطور كارل الأول، وأُجبر على التنحي عن العرش. 

مساحات هائلة تغطيها الحدائق المحيطة بالقصر، حيث الأنواع الفريدة من الزهور والأشجار، فيما تنتشر النوافير والتماثيل على الجانبين لتعكس مهابة هذه الحقبة من تاريخ حكام النمسا. أما حديقة الحيوان، التي تحتل حيزًا كبيرًا من حدائق القصر، فتعد فرصة مناسبة لاختتام الرحلة في هذا الموقع التاريخي.  


x
You are looking for